الرئيسية / أخبار / فلانة الزرقاء..!! بقلم منى الروبي

فلانة الزرقاء..!! بقلم منى الروبي

في عوالم لوحتي (فلانة الزرقاء)، تتشكّل ملامح امرأةٍ تعرفني إلى أعماق الروح.. ليست مجرد وجهٍ ممدودٍ بلون الكوبالت، ولا عينين مفرطتي الزرقة وحسب، بل سردٌ بصريٌّ حُبِكَ بصبْر المُستمع، وحكايات النساء اللواتي عبّرن لي عن هشاشتهنّ. أين وجدتهن؟ بين صفوف الدراسة، وفي دهاليز البيوت المُغلَقة، ووراء آلات ورش العمل، وفي ظِلال كواليس المسرح حيث يمتزج الضوء بالغموض.

أنا تلك الأم التي وُلدت آلاف المرّات على جدران المعارض، والمعلمة التي نسجت دروسها بخيوط اللعب والضحك و الجد والحبّ، والناشطة التي مدّت يد التضامن لمن سقطن في براثن الظلم. كلّ امرأةٍ عبرت حياتي تركت فيّ اثرا أوثقة بقلمي  وريشتي.

فقط أنا أعرف أن الفراشة المرسومة على جبهتي ليست زينةً عابرة، بل هي ذاكرةٌ حيّةٌ أهدَتْها لي “فلانة الزرقاء” حين حكتْ كيف أن  أرواح الالف النساء  تُحلّق من نوافذ الغُرف الضيّقة من أجل اطفالهن، وأنا وحدي أدرك أن اللون الوردي على الجفون ليس إغراءا، بل أثر دموعٍ جفّتْ تحت شمس المعاناة!

الرسم هنا ليس سجّادًا للّحظة العابرة، بل غوصٌ في الأعماق كالمسرح الوجودي. تشريحٌ للروح كما فعل رامبرانت في (درس التشريح) (1632) بضوئه الدرامي، ومواجهةٌ صادقةٌ كصرخة فان غوخ في (بورتريه الذاتي مع الأذن المقطوعة) (1889) حين جسّد ألمه على القماش بلا مواربة.

لوحتي – وإن بدت سريالية – هي قصيدة واقعيةٌ نابضة: لحظة التصادم التي تعلّمت فيها قراءة الوجوه، وترجمة ألوان الأرواح، واستحضار روح “فلانة الزرقاء”.

أن أرسم امرأةً يعني أن أستضيف كونها داخل جدراني.

أن أضع ظلًّا تحت العين هو تبنّيٌ لأسرارها المُثقلة.

أن أحدّد الشفاه بالأحمر هو تحريرٌ لصوتٍ كُبِلَ بالصمت “اصمتي؛ اخرسي؛ عيب”،

أن أترك فراغًا على الجبهة هو إشراعٌ لنافذة الأحلام.

الفن التشكيلي – كالمسرح العظيم – لا يكتفي بتصوير الشخصية، بل يعيد خلْقَها من الرماد، كما جسّد لوركا نساء الأندلس الحديديات في مسرحياته، وكما نقل بيكاسو صرخة (غيرنيكا) (1937) بلغة التفكيك والتركيب، هكذا أرسم أنا: امرأتي كما سمعتها بقلبي، لا كما صوّرتها عدسة باردة، ولا كما اختزلها ذلك الرجلٌ المتلاعب بلحيته مرخي على الأريكة.

أنا وهي.. نحن اللوحة التي لا تكتمل.

نحن الأصلُ الحكاية التي تتفرّع لأنها “تلدُ”!

نحن الشعور والفكرةُ.. اللونُ الذي يبهر الظلمة.

نحن الفنُّ بشفاهٍ حمراءَ مكتنزه، وشعرٍ مموج ، وروحٍ لا تُقاس الا بالبرزخ.