تقرير البحرين/المنامة/ منذ تفشي جائحة كورونا، تغيّر وجه العالم رقميًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، إذ فرضت ظروف الإغلاق والتباعد الاجتماعي واقعًا جديدًا، دفع الملايين نحو الاعتماد على الإنترنت، وتحديدًا على وسائل التواصل الاجتماعي، كوسيلة رئيسة للتواصل، والترفيه، والعمل، والتسوق. وهذا التغيّر المفاجئ لم يكن عابرًا، بل أسّس لمرحلة جديدة من الحضور الرقمي المتزايد، انعكست آثاره بوضوح على سلوك المستهلكين، وأسهمت في نمو التجارة الإلكترونية بوتيرة غير مسبوقة.
غير أن هذا النمو، وعلى الرغم مما حمله من مزايا، فتح في الوقت ذاته الباب أمام ممارسات تجارية استغلالية، مارستها بعض الشركات والمجموعات، سواء كانت مشروعة أو وهمية، إذ استغلت الحالة النفسية للمستهلكين، ووجودهم المتكرر والمكثّف على منصات التواصل؛ لدفعهم نحو الشراء، أحيانًا بوسائل ترويجية خادعة أو مضللة، مستفيدة من قوة الخوارزميات، والتسويق النفسي، واستقطاب المؤثرين والمشاهير.
وفي مملكة البحرين، كما في كثير من دول العالم، بدأت تظهر ملامح ظاهرة جديدة يطلق عليها المتخصصون مصطلح “الإدمان الاقتصادي”، وهي حالة تتجاوز مجرد الشراء العادي إلى نمط استهلاكي قهري، يتكرر بصورة لا واعية، مدفوعًا بتأثيرات نفسية وإعلانية مستمرة. ويُعرّف “الإدمان الاقتصادي” بأنه اعتماد سلوكي ونفسي على عمليات الشراء والإنفاق، ناتج عن التعرض المكثف للرسائل التسويقية المصممة بدقة لاستهداف الرغبات البشرية، بل ولخلق احتياجات غير حقيقية.
هذه الظاهرة، التي تتقاطع فيها الجوانب النفسية والاقتصادية والتقنية، باتت تُثير القلق لدى الكثير من المتخصصين، خصوصا في ظل تزايد حالات الخسارة المالية، والإفراط في الإنفاق، والانجرار وراء إعلانات غير موثوقة أو مشروعات استثمارية وهمية، الأمر الذي قد ينعكس سلبًا على الحالة النفسية والاجتماعية للأفراد، بل ويتسبب في مشكلات حقيقية مثل القلق، الاكتئاب، أو حتى الانهيار المالي.
في هذا التحقيق صحيفة (البلاد) تسلّط الضوء على هذه الظاهرة المتنامية في البحرين، عبر قراءة الأسباب، وتحليل السلوكات، واستعراض شهادات المتخصصين، بالإضافة إلى طرح تساؤلات عن دور الجهات المعنية في الرقابة، والتوعية، وحماية المستهلك من هذا النوع من الاستغلال الرقمي المتطور.
عبد الرحيم: البرمجة النفسية تصنع “مستهلكا مبرمجا” والإعلانات باتت تلعب بعقول الناس
فيما يتعلق بعلم النفس السلوكي وعلاقته بالشركات، قالت الدكتورة النفسية معصومة عبدالرحيم إن بعض الشركات أو المجموعات الوهمية تعمل بناءً على دراسة نفسية المتلقي، فاليوم، تقنيات تكنولوجيا المعلومات توصل المحتوى الذي يبحث عنه المستخدم بطريقة مذهلة، وكأنها تقرأ أفكاره.
وقد أصبحت البرمجة خطيرة جدًّا، فهي سلاح ذو حدين: يمكن أن تكون إيجابية إذا استُخدمت بوعي، أو سلبية تؤدي إلى مشكلات نفسية واستغلال، بل وقد تتحول إلى نوع من الإدمان.
وزادت أن الشراء الاستهلاكي غير النافع أو المتكرر بطريقة غير سليمة قد يكون نوعًا من الإدمان اللاواعي، إذ لا يدرك الشخص ذلك، كما نلاحظ الآن أن الكثيرين يقلدون بعض المشاهير في اقتناء علامات تجارية معينة أو عطور أو غيرها، ثم يكتشفون لاحقًا أن الشراء لم يكن صائبًا أو سليمًا، فعلى سبيل المثال، يتباهى البعض بحقائب من “ماركات” معروفة، لكن ما حدث أخيرا في الصين كشف عن أن هذه المنتجات لا تستحق الثمن الباهظ المدفوع فيها، وكذلك الحال مع بعض أنواع العطور.
ولفتت إلى أنه في الكويت تم وضع حد لاستغلال معارض بيع العطور، بعد اكتشاف حالات غسيل أموال مرتبطة بها، أما في المملكة العربية السعودية، فلا يُسمح بعرض أي إعلان دون ترخيص رسمي، متمنية أن يتم تطبيق هذا النظام أيضًا في مملكة البحرين، فوجود ترخيص يُحمّل المعلن المسؤولية، ويحدّ من الإعلانات غير الموثوقة التي تهدف فقط إلى الربح دون مراعاة المصداقية.
وعن استغلال الشركات للضعف البشري من أجل كسب الأرباح، تقترح الدكتورة استبدال مصطلح “الضعف البشري” بـ “الواعي البشري”، فما حدث أخيرا من قِبل بعض المنصات التي وعدت بأرباح مضاعفة، كان بالإمكان تفاديه لو كان هناك وعي كافٍ للتحقق من وجود هذه المنصات تجاريًّا ومن ترخيصها الحكومي، فمجرد طرح الأسئلة المناسبة مثل: لماذا تُحقق هذه الأرباح؟ ومن يقف خلفها؟ كان كفيلًا بحماية الكثير من المواطنين من الخسارة، وكذلك الحال مع بعض الشركات الاستثمارية الوهمية التي تلاعبت بالمواطنين، فلو وُجد الوعي الكافي بكيفية التحقق من مصداقية أي شركة بطريقة سليمة، لما حدثت هذه الخسائر الفادحة.
وعن مدى تأثير هذه الخسائر التي تلقاها مواطنون أخيرا على النفسية، أكدت د. عبدالرحيم أن لها تأثيرًا نفسيًّا كبيرًا، فالكثير من المواطنين يحرصون على الاستثمار بمبالغ مالية، وخسارة هذه الأموال، خصوصا في ظل غلاء المعيشة في البحرين أو خارجها، تؤثر بلا شك على الحالة النفسية، وقد تؤدي إلى القلق أو الهلع أو الاكتئاب.
وزادت، أنه في بعض الدول قد تصل هذه الخسائر إلى حد الانتحار، لكن في مجتمعنا البحريني المسلم، لا تنتشر هذه الظاهرة على الرغم من أن الأمراض النفسية الناتجة عن الخسائر المالية ما تزال واردة.
وفيما يتعلق بالتكرار، والإشعارات، والخوارزميات، يضاف إليها استغلال بعض المشاهير الذين يفتقرون إلى المصداقية في الإعلانات، فإن كل ذلك يجعل من المتلقي أداة سهلة للاستغلال، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما حدث أثناء جائحة كورونا، إذ ارتفع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير (فيسبوك، واتساب، تويتر، إنستغرام)، وكانت التجارة الإلكترونية في أوجها، وذلك نتيجة البقاء في المنازل، والشعور بالملل، والفراغ؛ ما أدى إلى إدمان استخدام هذه الوسائل حتى بعد انتهاء الجائحة، وساهم في الترويج لمنتجات عديدة؛ ما أدى إلى إنفاق الناس مبالغ طائلة نتيجة لتأثير خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي.
واختتمت د. معصومة تصريحها بنصيحة، قائلة “ليس كل ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي ولا كل ما يُعلن من قبل بعض الشركات أو المجموعات الوهمية، يُعتبر صحيحًا، وأنه لا بد من التحقق من أي موضوع، وذلك باتباع الطرق الرسمية والسليمة المعتمدة في كل دولة، عبر الرجوع إلى الوزارات والجهات المعنية، والسؤال والتثبت، وإعطاء النفس فرصة للمراجعة والتأمل قبل اتخاذ أي قرار”.
النجار: الإدمان على الأجهزة نزعة استهلاكية لا ترقى إلى مرض.. والانفصال عنها غير وارد
وعن مفهوم الإدمان أشار أستاذ علم الاجتماع د. باقر النجار، إلى أن كلمة “الإدمان” في أصلها تأتي من الطب، إذ كانت تستخدم لوصف حالة ارتباط بين الفرد وعقار معين.
لكن مع مرور الوقت، توسعنا في استخدام هذه الكلمة لتشمل حالات ارتباط قوية بين الشخص ومنتج أو سلعة معينة، فمثلا، أصبحنا نقول إن الشخص “مدمن” على الهاتف، أو التلفزيون، أو السيارة، أو حتى على طعام معين، وبالتالي، أصبحت الكلمة تُستخدم لوصف هذا الارتباط الشديد بين الشخص والسلعة.
لكن هل هو مرض؟ في الحقيقة، لا يعد مرضًا في حد ذاته، ولا هو مرض اجتماعي، بل هو ببساطة وصف لحالة ارتباط أو تعلق شديد بشيء معين، وهذه الكلمة تصف ببساطة هذا النوع من الارتباط، وتُبيّن مدى تأثيره على الشخص.
هذا الارتباط والإدمان على الأجهزة لا يوازي أو يماثل درجة ارتباط المدمن بالأدوية أو المخدرات؛ لأنه يمكن للفرد استبدال هذا الجهاز بجهاز أفضل أو أقل، أو حتى يمكنه التخلي عنه تمامًا.
وتابع بأن هناك الآن نزعة في وسط كثير من الأشخاص على مستوى العالم للتخلص من درجة هذا الارتباط، وذلك عبر العيش في حالة من العزل في أماكن أو مناطق معينة، مثل الرحلات التي تساعدهم على تحقيق هذا الانفصال.
وبين أن الأجهزة الذكية أصبحت جزءًا من نزعة استهلاكية جديدة انتشرت بشكل واسع في مجتمعاتنا، وربما في العالم عموما، وهذا الاستخدام الواسع لجهاز الهاتف الذكي الذي أصبح يقدم للكثير من الأشخاص العديد من الخدمات المختلفة والمتطورة، وفي النهاية تصب فائدته النهائية في جيوب الشركات المصنعة والمشغلة له.
وأكمل: أنا شخصيًّا لا أعتقد أننا سنشهد انفصالًا تامًّا عن هذه الأجهزة، بل سنستمر في استخدامها بأشكال جديدة ومتطورة.
العلوي: المؤثر الحقيقي يوجه الوعي ولا يبيع الوهم.. والمستهلك اليوم أكثر حذرا من أي وقت مضى
بدورها قالت المؤثرة دلال العلوي: أعتقد بأن المستهلكين يمكن تصنيفهم إلى نوعين، النوع الأول هو الشخص الذي يمتلك خطة اقتصادية واضحة، ويعرف كيف يدير أموره المالية، يعرف أين يصرف ماله، ماذا يشتري، وما الذي يجب تجنبه، هذا النوع من الأشخاص لديه وعي مالي، وأرى وجوده تحدّيًا في ظل انتشار “البلوغرز” والمؤثرين.
أما النوع الثاني، فهم أولئك الذين يتبعون التيار، مع سرعة الحياة وتغلغل “السوشيال ميديا” في تفاصيل حياتنا اليومية، أصبحنا نعيش في واقع نادرًا ما نختار فيه بأنفسنا، بل أصبحت الخيارات تُملى علينا، وبالتالي أصبحنا نلاحظ قلة قدرتنا على اتخاذ قراراتنا بشكل مستقل.
وتابعت، اليوم، لا أعد كل من يطلق على نفسه لقب “مؤثر” مؤثرًا حقيقيًّا، إذا لم يكن لديه محتوى هادف ويعتمد فقط على الترويج لمنتجات بهدف زيادة الدخل، فهذا ليس تأثيرًا حقيقيًّا، وهناك من يقول “لا يهمني المستهلك، ما يهمني هو المال فقط” وهذا شيء مثير للقلق.
لكن ما نشهده اليوم من تأثير إيجابي، هو أن المستهلك أصبح أكثر وعيًا، وقادرًا على التمييز بين المؤثر الحقيقي والآخرين الذين يقتصر دورهم على الدعاية فقط.
وزادت، أن المستهلكين بدؤوا في اكتشاف أن بعض “البلوغرز” والمؤثرين ليسوا سوى واجهات دعائية، بل وقد اكتشفوا بعض جوانبهم السلبية، ولذلك نحن بحاجة إلى مرحلة جديدة تسمى “مرحلة التقييم”، في هذه المرحلة، يجب أن يكون لدى الأفراد وعي كافٍ للتمييز بين “البلوغرز” والمؤثرين الحقيقين.
وأكدت أنه من المهم أن نعرف أن الشخص يمكن أن يكون مؤثرًا في مجاله، ولكن يجب أن يمتلك وعيًا حقيقيًّا بالوضع الاقتصادي الراهن. وواصلت: بالنسبة لنا كـ “بلوغرز” أو مؤثرين، نواجه تحدّيًا في مواكبة هذا الوعي المتزايد لدى المستهلك، وأحيانًا نجد أنفسنا في وضع صعب، كما لو أننا أصبحنا غير قادرين على التأثير بالشكل المطلوب.
وأكملت: مع ذلك، لا يمكننا أن ننكر أن “السوشيال ميديا” والتطبيقات قد غيّرت حياتنا بشكل جذري. أصبحت الشركات اليوم تستفيد من هذه التحولات وتستخدمها لصالحها، فهم الآن يعرفون عبر البيانات المتاحة على منصات التواصل الاجتماعي شريحة المتابعين، وبالتالي يمكنهم استهداف فئات معينة بكل دقة.
على سبيل المثال، إذا كان المتابعون لدي 70 % من الرجال، فمن غير المرجح أن تسعى الشركات التي تبيع مستحضرات التجميل أو المجوهرات للإعلان عبري؛ لأن شريحتي ليست مناسبة لذلك؛ لذا تستخدم الشركات بيانات المتابعين في استراتيجياتها التسويقية بطريقة ذكية.
وأشارت إلى أن بعض الشركات تختار “البلوغرز” بعناية؛ لتستفيد من تأثيرهم وتوجه رسائل معينة لشرائح مستهدفة، أما الشركات التي تهتم بالتوسع والاستدامة، فهي تركز على استراتيجية تسويقية أعمق تتجاوز مجرد استخدام “البلوغرز” كأداة ترويجية، “في النهاية، الأهم هو خلق صورة إيجابية وترك أثر حقيقي، وليس فقط التركيز على البيع”.
ويستنتج التحقيق أن التحولات الرقمية المتسارعة، خصوصًا بعد جائحة كورونا، أسهمت في خلق بيئة خصبة لاستغلال المستهلك نفسيًّا واقتصاديًّا، عبر تسويق ذكي يعتمد على الخوارزميات والمحتوى المؤثر.
وهذا أدى إلى بروز ظاهرة الإدمان الاقتصادي، إذ يُقبل الأفراد على الشراء القهري بدافع الإغراءات المتكررة والتأثير النفسي، لا بدافع الحاجة الحقيقية. كما يتضح أن هذا الاستغلال ليس عشوائيًّا، بل ممنهجا ومدروسًا، ويستهدف الفئات الأقل وعيًا ماليًّا؛ ما يخلق تحديات نفسية واجتماعية خطيرة. وفي المقابل، بدأ وعي المستهلك يتطور، وبرزت الحاجة إلى مرحلة تقييم وتمييز بين المحتوى الهادف والتجاري، مع تأكيد ضرورة تعزيز الوعي المالي والرقابة التنظيمية للحد من هذه الظواهر.
وإن الإدمان الاقتصادي لم يعد مجرد سلوك فردي، بل ظاهرة اجتماعية معقدة تتطلب تدخلًا متعدد المستويات، يشمل التشريعات، الرقابة، التثقيف النفسي، والمسؤولية الاجتماعية من قبل المؤثرين والشركات؛ لحماية المستهلك من الاستغلال الرقمي في زمن الحضور الافتراضي المستمر.
عن صحيفة (البلاد) البحرينية