في بلدة صغيرة اسمها (فانتازيا) كان هناك معرض فني دائم الحضور، يشارك فيه ثلاثة أنواع من الفنانين، كلٌ منهم يظن نفسه بيكاسو العصر، ورافاييل الزمان، ولكن الحقيقة كانت أكثر طرافة مما يظنون.
أولهم الفنان الحر، ذاك الدرويش الصادق، التائه الجميل، الذي يمشي على الأرض وكأنه لا ينتمي إليها، يحمل ريشته كمن يحمل رسالة، ويرسم وكأن قلبه هو الذي يسكب الألوان لا يده، لا يهتم إن أحب أحد لوحته أم لا، بل سيقول لك بثقة وهو ينفث دخان سيجارته الملفوفة: “أنا أرسم ما يؤلمني، ما يهزني من الداخل، أما رأيك… فتقديري له معنوي فقط”، تراه يجلس في الزاوية، عيناه نصف مغمضتين، يتأمل لا اللوحات بل الحكايات خلفها، لوحاته مثل دعاء مرسوم، مثل موسيقى لا تُعزف شفتان لم يلتقيا. مرة باع لوحة لرجل أعمال ثري لأنه ظن أنها تعبر عن أزمة الوجود، ولكن الفنان كان يعاني وجوده (شئ اخر) . هو يرسم ليرتاح، لا ليُعرض. هو كائن من طينة مختلفة، فيه شيء من الصراحة الوقحة..لكنه شفاف.
أما الفنان الثاني، فهو “التاجر الفهيم”، الذي لا يبدأ صباحه قبل أن يتفقد تقرير السوق الفني، كما يتفقد التاجر أسعار الذهب. يرتدي بدلة أنيقة و قبعة مكتوب عليها انا فنان ، يحمل حقيبة بداخلها آيباد ومنشورات يعرض عليه أعماله بحرفيه محسوبة. تجده دائماً في أول الصفوف في افتتاح الفعاليات المختلفة، يبتسم ابتسامة مليئة بالكولاج التجاري. أعماله متقنة جداً لدرجة تشعر أنها مصنوعة في مصنع، لوحاته تتبع الموضة: مرة تجريد، ومرة فن نباتي صديق للبيئة، ومرة دوائر ملونة تشبه أغطية زجاجات الكولا. لا أحد يعرف ماذا يريد أن يقول، لكنه بالتأكيد يعرف ما يُباع، يرقد أمام مكاتب المسؤولين و يضع اسعارا مغرية للمستشفيات والفنادق .
ثم هناك “الفنان الحائر”، الذي يعيش بين أحلام المعارض وحقيقة الدوام الوظيفي. تجده يقول بفخر: “الفنان فلان أستاذي، أما فلانه فهي أختي من الرضاعة الفنية، وأبو علان هو مرشدي الروحي”. لكن حين ترى لوحته، تُصدم: خلفية مطبوعة من الإنترنت، ألوان مرشوشة كأن قطة وقعت في علبة طلاء، وتقليد باهت لعمل مشهور، فقط بعين مضافة أو توقيع مائل. هذا الفنان يقيم في المعارض أكثر مما يقيم في مرسمه، ويعيش على أمل أن يلتقطه الضوء ذات يوم، بينما لوحاته تهمس للمتلقي: “استر علي الله يستر عرضك”.
في النهاية، الفن ليس معطفاً نلبسه ولا حديثاً نكرره، بل روح تُرى بين الخطوط والألوان في فانتازيا، كما في الواقع، لا تخطئ العين المُحبة للفن الصدق حين تراه. وقد تتوه في الزحام لوحة باذخة لكنها خالية، بينما تبقى لوحة بعينين كبيرتين وصدق واضح، لأنها ببساطة… رُسمت من قلب، لا من جيب. البحث عن الفن الذي يشبه صاحبة فكل شى لا يشبهنا فهو مزيف..