عندما شقت الناشطة البيئية اليافعة غريتا تونبيرغ طريقها عائدة من أمريكا الشمالية نحو أوروبا، بعد رحلتها التي بلغت 3 آلاف ميل عبر المحيط الأطلسي، حازت انتباه العديد من الناس على نحو لم تحظ به أي حملة بيئية من قبل.
حيث تمكنت هذه الفتاة السويدية ذات الستة عشر ربيعًا من إحداث تغيير جذري في الطريقة التي ننظر بها إلى البيئة، والمخاطر المتزايدة التي تتعرض لها، وكانت تلك هي اللحظة المناسبة للتغيير.
وبدورها، تمرّ الأسواق كذلك في الفترة الحالية بموجة تغيير جذري فيما يتعلق بنظرة المستثمرين إلى الشركات وممارستهم للأعمال، ليس من وجهة نظر بيئية فحسب، بل أيضًا من حيث تفاعلهم مع المجتمع والمعايير الأخلاقية التي يطبقونها.
ويزداد حاليا مستوى امتثال المديرين الماليين لمعايير الاستثمار البيئية والاجتماعية والإدارية (المعنية بحوكمة الشركات) (ESG) عند اختيارهم للشركات والمؤشرات التي يخططون للاستثمار فيها. وكانت شركة إندوسويس لإدارة الثروات من أوائل الشركات التي وظّفت أدوات تعزيز الاستثمار المسؤول، بهدف تسريع نمو التمويل المستدام وتقديم حلول توافق اهتمامات العملاء ضمن هذا المحور، وخصوصًا الأجيال الشابة. وعلى غرار الاحتباس الحراري، لم يحدث هذا التغيير بين يوم وليلة، مع أنه يبدو كتغيير مفاجئ، خصوصًا في ظل التدفق الذي نشهده لمليارات الدولارات نحو التمويل القائم على معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات.
وباتت هذه الظاهرة تلاقي رواجًا متزايدًا في الأسواق الناشئة في الخليج العربي، ويعود السبب في ذلك جزئيا وليس حصريًا إلى موجة الاستثمارات الأجنبية الوافدة إلى البورصات من الإمارات العربية المتحدة إلى المملكة العربية السعودية بعد أن أُدرجتا في مؤشرات الأسواق الناشئة مثل مورغان ستانلي كابيتال إنترناشيونال (MSCI) و«فوتسي راسل» (FTSE Russell).
ويقف كبار مديري الأصول في المنطقة خلف هذه التطورات، فهي ليست صدفة، ويجب على المستثمرين الكبار أصحاب السيادة أن يتبنوا نظرة مستقبلية طويلة الأجل بشأن الأصول التي يمتلكونها، كما ينبغي عليهم مراعاة انسجام استثماراتهم مع التغيرات الاجتماعية والبيئية التي تتمتع بهيمنة كبيرة حاليًا.
فهؤلاء المستثمرون لا يهتمون كثيرًا بالأداء اليومي أو الشهري للمحافظ الاستثمارية، بل بأدائها الطويل الأمد على مدى سنين أو حتى عقود من الزمن، حتى أن بعضهم لا يفصح إلا بشأن الأداء الطويل الأمد، ويمتنع عن إصدار تقارير حول الإيرادات السنوية التي تحققها محافظهم، لذا فإن تركيز المستثمرين لم يعد محصورًا في ارتفاع قيمة رأس المال والإيرادات السنوية فحسب، بل إنهم يأخذون أيضًا بعين الاعتبار عوامل المخاطرة والاستدامة وكذلك سمعتهم الخاصة عند إعدادهم لموازنة الاستثمار.
ويركز هذا النهج التقدمي بالضرورة على أداء الأصل المستقبلي عوضًا عن أدائه في الماضي، بل وفي بعض الأحيان ينظر فيما إذا كان الأصل سيبقى في حيز الوجود في المستقبل، أو إن كان سيبقى صالحًا للاستثمار من ناحية أخلاقية على الأقل.
ومن الأمثلة على التغيير الحاصل في سلوك المستثمرين أصحاب السيادة هو إطار العمل «كوكب واحد» لصناديق الثروة السيادية، والذي تأسس عقب اتفاق باريس 2015 للتخفيف من آثار التغيير المناخي.
والجدير بالذكر أن أربعة من أصل ستة مؤسسين له هم من دول الخليج، وهم بالاسم: هيئة أبوظبي للاستثمار، والهيئة العامة للاستثمار في الكويت، وجهاز قطر للاستثمار، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي.
وقد جاء هذا التحرك بعد مرور عقد كامل على مراسلة الأمين العام السابق للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان لمجموعة من الرؤساء التنفيذيين العالميين مطالبًا إياهم بإدماج مفاهيم الاستثمار المعتمد على معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات ضمن أسواق رأس المال.
ولهذا السبب، فإن اعتماد مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية أصبح مؤخرًا أمرًا محوريًا بعد أن كان هامشيًا في الاعتبارات الاستثمارية، مع تزايد عدد الشركات الآخذة بتطبيق معاييره.
ويقدر حجم الاستثمار المعتمد على الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات الآن بربع الأصول المدارة عالميًا، في حين تخطت قيمة الاستثمار المستدام 30 تريليون دولار أمريكي بنهاية عام 2018، وذلك وفقًا للاستعراض العالمي للاستثمار المستدام.
وقد كشف استطلاع أجرته شركة «كيه بي إم جي» (KPMG) على أن أكثر من ثلث المسؤولين التنفيذيين في الشركات، يرون أن الضغط من المستثمرين أدى إلى زيادة تركيز شركاتهم على الاستثمار المعتمد على معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات.
كما طالت هذه الظاهرة عمليات تداول الأسهم، حيث أفادت بورصة «يورونكست» (Euronext) هذا الشهر بأنها تعتزم الاستثمار في مؤشرات من هذا النوع ضمن خططها التوسعية.
وبالنسبة للشركات الخليجية التي وجدت نفسها فجأة مستهدفة من مديري أموال الأسواق الناشئة الكبيرة، فإن الحاجة للانتقال نحو هذا النوع من الاستثمار أصبحت ملحة، خصوصًا في ظل الأفكار السابقة الموجودة عند بعض المستثمرين حول الشركات في العالم العربي.
كما يزداد في الوقت الحالي تبني الشركات الخليجية الكبيرة والصغيرة هذه المعايير البيئية والاجتماعية ومعايير حوكمة الشركات، وهي بذلك تحظى باهتمام طيف واسع من المستثمرين العالميين.
وخلال هذا الشهر، نظمت شركة رائدة إقليميًا للبتروكيماويات مؤتمرًا في مقرها بالرياض تحت شعار «تعزيز النزاهة والشفافية من أجل النمو»، وذلك لتعريف المجتمع العالمي بفلسفة الشركة ونزاهتها وأخلاقياتها التجارية.
ويتزايد عدد شركات المنطقة التي تتبنى نهجًا مشابهًا، سعيًا منها لتلبية توقعات مديري الأموال الأجنبية الذين يبحثون عن عوائد تتجاوز الأداء المالي الفوري. وتجدر الإشارة إلى أن هذا لا ينطوي على التضحية بالعوائد المالية، فقد أظهرت بيانات شركة «مورنينج ستار» (Morningstar) أن الصناديق التي أخذت معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بعين الاعتبار حققت أداء أفضل من الصناديق التي لم تنتهج هذا النهج. وقالت الشركة إن خمسة من أصل ستة صناديق شملها التحليل، أظهرت تفوقًا للصندوق الأكثر أخلاقية على قرينه التقليدي على مدار سنة وثلاث سنوات.
إن تمكنت غريتا من شق طريقها عبر المحيط مهتديةً بالنجوم، فإن هذه النجوم تقودنا اليوم من دون شك نحو مرفأ أكثر أمنًا، بيئيًا واجتماعيًا، وأكثر أمنًا من حيث الحوكمة والتمويل أيضا.
——————————-
*الرئيس العالمي للعمليات في شركة إندوسويس لإدارة الثروات في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وماري أوينز تومسون، الرئيس العالمي للبحوث الاقتصادية.