نعود في كل عام وفي كل مناسبة إلى نفس الحكاية ونفس القصة التي عنوانها «الاستهلاك والتبذير» وقد يكون شهر رمضان المبارك بعكس حكمة مشروعيته هو إحدى المناسبات التي يكثر فيها الاستهلاك والتبذير إضافة إلى ما نفعله بأنفسنا وبمواردنا على مدار العام من دون انقطاع تقريبا.
ظاهرة الاستهلاك المفرط والمبالغ فيه تشاهدها بعينك عندما تنزل إلى السوق أو التجول في المتاجر الكبيرة السوبر ماركت للمواد الغذائية حيث يزدحم الناس على شراء وتكديس المواد الغذائية والكراتين يلتقطون كل شيء للحاجة أو من دون الحاجة ومن دون دراسة أو تدقيق وفقا للاحتياج، فأنا أرى في الأسواق نماذج من الأجانب وخاصة الأوروبيين يتجولون وفي أيديهم ورقة مكتوب عليها المواد التي سيشترونها وفقا لاحتياجاتهم وفي النهاية تجده عند أمين الصندوق وفي عربته بضعة أكياس بسيطة ويدفع مبلغا في العادة لا يزيد على عشرين دينارا فكل شيء عندهم محدد ومدروس ومخطط له قبل الخروج من البيت ماذا سيشتري وكمية البضاعة حتى إنني كنت أرى البعض يشتري من الفواكه والخضراوات حبات قليلة جدا في حين نجد «جماعتنا» يشترون بالكراتين تأكيدا على عدم الوعي والتخطيط والفوضى الشرائية أما القلة القليلة التي تشتري بحسب احتياجاتها فتوصف بالبخل- للأسف- ويتم التندر عليها وهو تأكيد آخر على عدم الوعي لدى الناس عندنا.
ولو أن هذا الذي يشترى بالأكداس المكدسة يستهلك بالكامل أو شبه كامل لكنا تفهمنا ذلك وقبلناه إلا أنه من المؤسف أن الجزء الأكبر يفسد وما يطبخ مصيره سلة القمامة.
وهذه الظاهرة العجيبة الغريبة لا تترافق مع المناسبات فقط بل أصبحت تكاد تكون سلوكا يوميا ينسجم مع «ثقافة» استهلاكية لا علاقة لها بالإنتاج أو العمل أو الحاجات الضرورية للفرد والعائلة.
هذه الظاهرة أيضا تترافق مع أمر آخر يدخل في مفارقة عجيبة غريبة وهو تراجع الدخل وضعف القدرة الشرائية بسبب الأوضاع المالية التي تمر بها البلاد فعادة يتراجع الاستهلاك بتراجع الدخول أو زيادة الأسعار ولكننا نحن تحديدا نعمل خارج القواعد الاقتصادية العلمية.
تزيد الأسعار أو تنخفض تتراجع الدخول والرواتب أو لا تتراجع تفرض الضرائب أو لا تفرض فإن منهجنا في الحياة الاستهلاك ثم الاستهلاك ثم التبذير ثم التبذير.
هذا الوضع المليء بالمفارقات يدل على أننا نعاني من خلل هذا الخلل في المنطق في العقل في السلوك العقلاني والحضاري للإنسان فالمنطق يقول «على قدر اللحاف أمد رجلي» فالإنسان يفترض به ألا يستهلك إلا في حدود ما يحتاج إليه ووفق إمكانياته ولكن هذه المعادلة بالرغم من منطقيتها فإنها تفشل معنا فشلا ذريعا.
إن هذا الخلل يجب أن يلفت انتباه جميع الجهات الحكومية والأهلية والدينية والثقافية والإعلامية والتربوية والأسرية حيث يجب أن يربى الفرد في البيت كما في المدرسة في المساجد والنوادي الرياضية والثقافية على أن يستهلك مقدار ما يحتاج فقط وأن يتقشف عند الضرورة وأن يتجنب التبذير لأن المبذرين إخوان الشياطين.
هذا الوضع يجب أن يستوقف الإعلام والأعمدة الصحفية والإذاعة والتلفزيون ودروس التربية الدينية والوطنية لأننا لن نتغير إلا إذا تغير العقل الذي يحكم الإنسان وهذا العقل لا يتغير وحدة وإنما يتغير تحت وطأة التربية والإعلام والخطاب الديني والقدوة داخل الأسرة وغير ذلك من مكونات بناء الشخصية وبناء القيم السلوكية السليمة التي لا نزال بعيدين عنها كل البعد للأسف الشديد حتى أصبحنا مضرب الأمثال في الاستهلاك العشوائي والتبذير المخل والمؤلم.
وهناك أمر أخير لا بد من التفكير فيه وهو أننا في البحرين نعيش حاليا مرحلة صعبة وهي مرحلة التوازن المالي المنشود ولكي نخرج من هذه المرحلة الخانقة ونستعيد توازننا ويستعيد اقتصادنا عافيته جاءت العديد من الإجراءات الحكومية الهادفة إلى تقليص المصاريف والإنفاق وإلى الحد من الصرف على الخدمات وإعادة توجيهها إلى مستحقيها من المواطنين، وبناء عليه نتمنى أن يحذوا الناس حذو الحكومة بتخفيض الاستهلاك غير المبرر والحد من المصاريف غير الضرورية وتجنب التبذير في الطعام والملبس والأجهزة الإلكترونية وغيرها من المواد التي يتم شراؤها من دون الحاجة إليها.