في فلورنسا القرن الرابع عشر، حيث الأجراس تدق كل صباح، عاش الفنان جوتو دي بوندوني (1267–1337)، كان قلبه معلقًا بفتاة تدعى لورا، عيناها مثل ماء النبع، لكن يدها كانت بيد محاربٍ لا يعرف سوى لغة الدم. لم يجد جوتو وسيلة للتقرب منها إلا بريشته، فخلّد ملامحها في لوحاته الجدارية عن العذراء، وأبرزها الحزن على المسيح (1305)، حيث العاطفة تفيض من وجوه النساء، وكأن لورا بينهن. وفي نفس شوارع توسكانا، كان أمبروجيو لورينزيتي (1290–1348) يرسم تحفته تأثيرات الحكم الجيد والسيئ (1338–1339)، وفي جزء الحرب صور الدمار والموت، محذرًا مجلس المدينة من مغبة النزاعات، وهو الذي شهد بنفسه اضطرابات المدن الإيطالية.
سانقل عدستي الموثقة إلى روما في القرن السادس عشر، حيث عاش رافاييل (1483–1520)، العاشق الوسيم الذي هام بفتاة من عامة الشعب اسمها مارغريتا لوثي. وهي ابنه الخباز وثق حبة لها بلوحةً أبدية أسماها لا فورنارينا (1520)، ليجعل من نظرتها وعدا بالعشق، وفي الوقت نفسه كان ليوناردو دافنشي (1452–1519) يعمل على لوحته المفقودة معركة أنغياري (1505)، وهي تجسيد لصراع فلورنسا وميلانو، لم يخض ليوناردو الحرب، لكنه رسمها بدقة المقاتل، وكأنه عاش الفوضى بين الخيول والرماح.
مع بداية القرن التاسع عشر، جلس فينسنت فان جوخ (1853–1890) في غرفة صغيرة بباريس، يكتب لعشيقته سيين هورنيك، بائعة الأزهار. رسمها في لوحات مثل سيين جالسة على العشب (1882)، فيما كانت حياته تمزج الحب بالحزن. وفي إسبانيا، عاش فرانسيسكو غويا (1746–1828) أهوال الغزو النابليوني، فوثقها في سلسلة كوارث الحرب (1810–1820)، حيث مشاهد الإعدام والقرى المحروقة. لم يكن غويا جنديا، لكنه كان شاهدًا مباشرًا، ورأى أصدقاءه يُقتلون، فصارت ريشته سلاحه.
ثم جاء القرن العشرون، حيث طار مارك شاغال (1887–1985) مع زوجته بيلا في لوحاته مثل العشاق فوق المدينة (1918)، يعانقها في السماء هربا من أهوال الحرب العالمية الأولى، التي اضطر للهرب بسببها من وطنه بيلاروسيا، وفي نفس باريس، تلقى بابلو بيكاسو (1881–1973) خبر قصف غيرنيكا في الحرب الأهلية الإسبانية، فأنجز لوحته الشهيرة غيرنيكا (1937)، لتكون أكبر صرخة بصرية ضد الحرب في القرن العشرين.
واليوم يواصل بانكسي (1974– ) على جدران العالم سرد هذه الثنائية الأبدية، فيجد المارة لوحة الفتاة مع البالون (2002)، رمز الأمل والحب، وعلى الجدار المقابل جنديا يزرع زهرة بدل قنبلة في عمله Flower Thrower (2003)، وكأن الحكاية لم تتغير: من جدران جوتو في فلورنسا إلى أسطح بانكسي في لندن، أما بالنسبة لي فاجد صعوبة عندما أنظر لوطننا العربي وما آل إليه، أذكر لوحة القنبلة الموردة كانت محاولة لبقاء ورد في منطقة تكالبت عليها قوى الشر، ظل الحب والحرب يسيران جنبا إلى جنب، تاركين للفن مهمة حفظ ذاكرة القلوب والسيوف في آن واحد.