في صباح رمادي من أيام أمستردام، وبين ضباب خفيف وقطرات مطر خجولة، وقفت أمام متحف فان جوخ، قلبي يدق بإيقاع غريب، لم تكن زيارة فنية بحتة، بل كانت أشبه بلقاء مؤجل مع رجل كُتبت ملامح معاناته على القماش، رجل هزّني فنه قبل أن أعرف اسمه.
دخلتُ بهدوء، وصعدت الدرج الزجاجي كمن يصعد إلى ذاكرة شخص آخر هناك، واجهت عينيه لأول مرة في بورتريه ذاتي فينسنت فان جوخ، ذلك الشاب الهولندي الذي وُلد عام 1853 في عائلة دينية محافظة، وكان والده قسيسا بروتستانتيا في قرية زوندرت، لم يكن طفلًا عاديا، بل حساسا، متأملا، يحمل في قلبه هما لا يعرفه إلا من تأمل كثيرا في السماء ولم يسمع جوابا.
قادتني اللوحات إلى قصة رجل لم يكن فنانا في الأصل. بدأ حياته موظفا في تجارة اللوحات، ثم واعظا متجولا بين الفقراء، حتى طُرد من الكنيسة لأنه أعطى كل ملابسه للمشردين، ظل يبحث عن مكانه في العالم، إلى أن وجد ضالته في الرسم وهو في أواخر العشرينات من عمره، حين كانت أوروبا تغلي سياسيا واجتماعيا، وكان الفقر ينهش أطراف المدن، والطبقية تخنق الأرواح، وهولندا، رغم جمالها، لم تكن ترحم الحالمين.
اقتربتُ من لوحة “آكلو البطاطا” كانت داكنة، صامتة، مؤلمة، رسمها فان جوخ ليروي مأساة الفلاحين، لا كأبطال رومانسيين، بل كضحايا للجوع والطبقية والقدر، لم يكن فان جوخ يرسم ليُرضي أحدا، بل كان يرسم لأنه لا يستطيع أن يصمت.
ثم وصلتُ إلى ركن “عبّاد الشمس” هناك تكدّست الزهور الذهبية، ليست مرسومة بدقة، بل بألم علمت لاحقا أنه رسمها ليستقبل صديقه الفنان بول غوغان، الذي كان يحلم بمشاركة مرسم في الجنوب الفرنسي. لكن الصداقة انهارت بعد شجار عنيف في لحظة فقدان اتزان، دخل فان جوخ غرفته، وأخذ شفرة حلاقة، وقطع جزءا من أذنه اليسرى. لفها بقطعة قماش، وأرسلها إلى راشيل، فتاة كان يحبها ويرى فيها بقايا دفء العالم.
لم تكن راشيل حبيبة بالمعنى التقليدي، كانت امرأة بسيطة كانه يراها خلاصًا من وحدته المزمنة، لكن الحب لم يشفِه كما لم تشفه العزلة ولا الضوء.
بعد حادثة الأذن، دخل المصحة النفسية وهناك، بين نوبات الهوس والصمت، رسم أجمل لوحاته: الليلة النجمية، حقل القمح والغربان، ونافذة غرفته التي لم تكن تطل على شيء سوى داخله.
خرجتُ من المتحف، مقتنية حقيبة ورد عباد الشمس لفان جوخ، هاهي تمطر السماء أكثر، لكنني كنت ممتلئة بورد اصفر يقول: “نحن هنا لنذكّرك أن حتى من عاش مرفوضا مكسورًا، ومعدما، يمكن لصوته أن يظل خالدا في الضوء”.
وهكذا علّمني فان جوخ، في تلك الرحلة، أن الفن ليس زينة للحياة، بل طريقة لنفهم الألم، وننقله إلى الجمال.