وأرى أنه وخلافًا للصورة الرومانسية المنتشرة، فإن صناعة المساعدات الدولية تُدار اليوم بطريقة تشبه إدارة الشركات الكبرى: مكاتب فخمة، شبكات من الاستشاريين، بيروقراطية دولية معقدة، وأموال ضخمة تُنفق على “إدارة الأزمات” أكثر مما تُنفق على حلها.
ولان لغة الأرقام لا تكذب فإنني أتحدث بوضوح وأقول إن أقل من 9 % من المساعدات الأميركية تُدار محليًّا داخل الدول المستفيدة، أما البقية، فتذهب إلى رواتب خبراء دوليين، وورش عمل، وتقارير كثيرة لا تُترجم غالبًا إلى تغييرات حقيقية على الأرض.
لكن بعد الأزمات الاقتصادية التي ضربت الغرب، لم يعد المواطن الأوروبي أو الأميركي مستعدًّا لتمويل مشاريع في دول أخرى بينما هو يُعاني من مشاكل في خدماته الصحية والتعليمية. والأسوأ، أن هذه المساعدات لم تنجح في خلق اقتصادات قادرة على النمو الذاتي، بل ساهمت أحيانًا في تكريس الاعتماد.
وإذا كانت المساعدات قد فشلت في مهمتها التاريخية، فإن البديل الحقيقي لا يمكن أن يكون سوى التصنيع، فالدول التي نجحت في الخروج من الفقر، ككوريا الجنوبية والصين، لم تفعل ذلك من خلال تلقي الهبات، بل من خلال بناء قاعدة إنتاجية قوية. كذلك فإن دول العالم الثاني اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الحملات الدعائية عن النظافة أو التوعية الغذائية، بل تحتاج إلى مصانع، وكهرباء، وطرقات، وأنظمة ضريبية شفافة تمكّنها من الاستثمار في ذاتها.
إذن التحول الصناعي لا يتحقق بالشعارات، بل يتطلب استثمارات حقيقية في البنية التحتية: كهرباء، نقل، اتصالات، ومياه، إضافة إلى مكافحة التهرب الضريبي لاسيما أن أفريقيا تخسر سنويًّا أكثر من 90 مليار دولار بسبب تهرب الشركات متعددة الجنسيات من الضرائب.
كما أن فتح الأسواق الغربية أمام المنتجات الجنوبية، لا معنى له إذا كانت الحواجز الجمركية تمنع التصدير. وكذلك فإن استغلال الموارد، دون امتلاك التكنولوجيا، يعيد إنتاج نفس علاقات التبعية القديمة، كما هو الحال في الكونغو، التي تُنتج الكوبالت الضروري لصناعة البطاريات، دون أن تمتلك قدرة على تصنيعه أو الاستفادة من عوائده.
وعليه، فإن انهيار منظومة المساعدات كما نعرفها لا تعني نهاية العالم، بل ربما هي بداية فرصة حقيقية لإعادة صياغة العلاقة بين الشمال والجنوب، وفي النهاية، لم يعد السؤال ما إذا كانت المساعدات ستنتهي، بل ما إذا كنا سنستبدلها بنموذج أكثر عدالة، أم نواصل ترسيخ عالمٍ غير متكافئ، عالمٌ فيه طرف يصنع ويصدر ويقود وطرف آخر ينتظر الفتات حتى آخر رمق.
* رئيس ومؤسس مجموعة طلال أبوغزالة العالمية