الرئيسية / مقالات / البُعد الاقتصادي ومؤشراته في التنمية المستدامة (1) بقلم: د. زكريا خنجي

البُعد الاقتصادي ومؤشراته في التنمية المستدامة (1) بقلم: د. زكريا خنجي

من الموضوعات المهمة التي تتحكم في مصائر البشر في الكرة الأرضية موضوع الاقتصاد، فالسياسة أصبحت ترتبط بالاقتصاد، والبيئة أصبحت تتبع الاقتصاد، والأسرة غدت تابعة للاقتصاد، وكل شيء أصبح يعيش لمنظار وبمنظار الاقتصاد، فهذا المصطلح الذي يعرف (بالاقتصاد) أصبح هو ما يتحكم في رقاب البشر ورقاب الدول، وهو الذي يؤدي إلى المنازعات والحروب وكل ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره، لذلك فإن من يهمل هذه الحقيقة فإنه سيجد نفسه يستجدي – سواء كفرد أو كدولة – بضعة دولارات حتى يقوم صلبه، كما يقال.

ويعرف الاقتصاد بأنه النشاط البشري الذي يشمل إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك السلع والخدمات، ولغويا فإنه يعني التوسط بين الإسراف والتقتير، فقد جاء في كتاب مختار الصحاح: «القَصْدُ بين الإسراف والتقتير يقال فلان مُقْتَصدٌ في النفقة» أي وسط في الإنفاق بين البخل والتبذير.

ولقد أشارت العديد من الدراسات إلى أن مصطلح (الاقتصاد) الذي يشار إليه في اللغة الإنجليزية (Economy) ينبثق من الكلمة اليونانية (أويكونوميا)؛ ويقصد بها التدبير المنزلي. ومن الجدير بالذكر أن جميع تعريفات الاقتصاد تشير إلى أنه ذلك العلم – وفقًا لآدم سميث أبو علم الاقتصاد – الذي يسعى جاهدًا إلى الكشف عن ماهية الثروات المتوافرة لدى الشعوب والأمم وطبيعتها ليصل إلى إنتاجها ثمّ استخدامها؛ ومن ثم فإنّه يمكننا تعريف الاقتصاد بشكل أشمل بأنه العلم الذي يهتم بالأنشطة والعمليات ذات العلاقة باستغلال الموارد الشحيحة والمتوافرة في مجتمع ما لغايات خلق سلع أساسية ذات قيمة؛ وتوزيعها بين أفراد المجتمع كما قدمه ليونيل روبينز.

وبمعنى آخر فإن مفهوم الاقتصاد يشير إلى الاستغلال الأمثل لكل ما يمتلكه مجتمع ما من موارد محدودة من خلال مجموعة من الأنشطة والعمليات بالاعتماد على العوامل الرئيسية للاقتصاد وهي: الأرض والعمل ورأس المال والمشروع؛ حيث يمكننا وصف النشاط بأنه اقتصادي في حال توافر العناصر الآنفة الذكر مجتمعة فيه.

ومن ناحية أخرى فإن مصطلح (الاقتصاد) مفهوم يشمل مفاهيم كثيرة، منها أن ما يركز على النظريات الاقتصادية والإدارية لتنفيذها، وأحيانًا يمكن اعتبار مصطلح بديل عما يعرف بالاقتصاد السياسي، ومنها ما يتعلق بالدورة الاقتصادية والوضع الهيكلي في الدول، ومنها ما هو مرادف للادخار أو لخفض الإنفاق، وقد يكون الاقتصاد في الواقع نتيجة لزيادة كفاءة التنظيم الداخلي للدول.

كما تشير العديد من الدراسات والمرجعيات إلى أنه يمكن تعريف الاقتصاد على أنه ذلك العلم المعني بدراسة كيفية استغلال الأفراد للموارد المتاحة لديهم أو صنع قرار ما يفيد في استغلالها للإتيان بمنتجات أو خدمات تعود بالنفع عليهم؛ ولا بد من الإشارة إلى أن مفهوم الاقتصاد لا يقتصر على الثروة والتمويل والكساد والأعمال المصرفية فحسب، بل تتسع رقعته لتشمل نطاقات أوسع بكثير.

أما عندما يكون حديثنا مركزًا على التنمية الاقتصادية فإننا من المفترض أن نتحدث بشمولية أوسع، وكما تشير الدراسات لأنها عادة ما تكون مصحوبة بزيادة في متوسط الدخل الحقيقي للفرد، وتحسن في توزيع الدخل لصالح الطبقة الفقيرة بصورة خاصة، وتحسين في نوعية الحياة وتغير هيكلية الإنتاج. ووفق هذا التعريف، فإن التنمية الاقتصادية يجب أن تحتوي على عدد من العناصر أهمها:
* الشمولية، فالتنمية تغيير شامل ينطوي ليس على العامل الاقتصادي فقط، بل أيضًا الثقافي والسياسي والاجتماعي.
* حدوث زيادة مستمرة في متوسط الدخل الحقيقي للفرد فترة طويلة من الزمن، وهذا يوحي بأن التنمية عملية طويلة الأجل ومستمرة أو مستدامة.
* حدوث تحسن في توزيع الدخل لصالح الطبقة الفقيرة والمتوسطة والتخفيف من ظاهرة الفقر.
‭*‬ ضرورة التحسن في نوعية السلع والخدمات المقدمة للأفراد.

ومن أبرز ما تنطوي عليه عملية التنمية الاقتصادية هو إحداث تغيير جذري في هيكلية المجتمع على المستويات الاقتصادية والاجتماعية كافة، من أجل القضاء على مسببات التخلف بالقدر الذي يعالج أسباب الفقر، ويضمن حق المحتاجين في الموارد المتاحة في المجتمع والدولة، وتوفير الضمانات الاجتماعية لهم وتقديم الرعاية الصحية. هذه المعالجة تتضمن رؤية حول مفهوم التنمية الاقتصادية وأهدافها والسياسات المطلوب تحقيقها. والواقع أن العمل على وضع برامج للتنمية الاقتصادية أو الإسراع بها يهم الدول الغنية والفقيرة على حد سواء.

فالدول الغنية ترغب في الاحتفاظ بمعدلات تنمية مرتفعة لتجنب الكساد والركود طويل الأمد. وما لم يكن معدل التنمية مرتفعًا، فإن هذه الدول قد تعاني زيادة الإنتاج عن الحدود المطلوبة مقابل الطلب الكلي (المحلي والأسواق الخارجية) ومن ثم تواجه مشكلة الكساد والركود والبطالة لأمد طويل. في حين تكون التنمية الاقتصادية مطلبًا ملحًا للدول الفقيرة كأحد الحلول اللازمة المستدامة لمواجهة التطرّف والحد من تكريس التبعية. وترى أوساط الأمم المتحدة أن العوامل الاجتماعية من أكبر الأسباب في إشعال الصراعات، ومن ثم على استراتيجيات التنمية السعي إلى تحقيق التوزيع العادل للدخول والعوائد الاقتصادية والثروات للحيلولة دون تفجّر الصراعات، وهذا هو مقصد التنمية الاقتصادية المستدامة.

وفي دراسة بعنوان (السياسة التجارية والتنمية الاقتصادية: كيف نتعلم؟) للباحثة (Anne Osborn) تشير إلى أن أهداف التنمية الاقتصادية تتمثل في زيادة الدخل القومي والارتقاء بمستوى معيشة الإنسان وتقليل الفجوة الداخلية في المجتمع والدولة، مع تعديل تركيبة هيكل الاقتصاد القومي لمصلحة قطاع الصناعة والتجارة.

وقد تبين أن تلك الأهداف بمنزلة علاج للمشكلات الناتجة من الخصائص الأساسية التي تتمثل في اقتصاديات الدول الفقيرة التي تعدّ دولاً منتجة للمواد الأولية وبعضها قابل للنفاد. هذه البلدان تواجه ضغوطًا سكانية وارتفاعًا في معدلات المواليد، وتمتلك موارد طبيعية لم يتم تطويرها نظرًا إلى ضعف الاستثمارات وخصوصًا في البنية التحتية، إضافة إلى العجز في رأس المال نتيجة ضعف التراكم الرأسمالي بسبب نقص المدّخرات، وميل معدلات التبادل التجاري لغير صالحها، ما يجعل هذه الدول عرضة للتقلب الاقتصادي وتأثرها بالدورات الاقتصادية العالمية. كما أنها تعاني الخلل البنائي لأفراد المجتمع، من حيث انخفاض مستوى المدخول، وسوء توزيع العاملين في القطاعات الاقتصادية، وضعف الإنتاجية وانتشار الفساد الإداري، وعدم الشفافية، واختلال آليات السوق في غياب القوانين الكابحة للاحتكار، ثم الطغيان السلطوي والاستبداد.

ومن جانب آخر فإن هناك دولاً غنية بالموارد وفريدة بالموقع وذات الموروث الثقافي والحضاري، ولكنها فقيرة بفعل الفساد والاستبداد وتحالف رأس المال غير المنتج مع غاسلي الأموال والمهربين والمتهربين. لذلك وجدت الباحثة أنه لا بد من وضع سياسات وإجراءات يتعيّن على الدول انتهاجها كأساس لتحقيق أهداف التنمية.

ويرى اقتصاديون آخرون أن وجود مناخ وبيئة مواتيين لأي نشاط اقتصادي هو نتاج لمجموعة من السياسات التي تم حصر أهمها فيما يلي: ترشيد السياسات المالية والنقدية وإدارة الدين الخارجي وخدمته، وهي عناصر رئيسية وضرورية للنمو الاقتصادي الحقيقي المستمر.

لذلك – وكما تشير الباحثة – فإنه ينبغي أن تهدف السياسات المشار إليها إلى زيادة المدّخرات وتوجيهها إلى الاستثمار في مشاريع تعمل على زيادة معدلات النمو الاقتصادي، على أن يصاحب ذلك وضع حزمة من التشريعات تعمل على بث الإحساس بالثقة لدى المستثمر، ما يحول دون ظاهرة تهريب الأموال. كما يجب تنمية الصادرات التي يعدها الاقتصاديون بمثابة قاطرة النمو، ووضع التشريعات اللازمة للحد من الاحتكارات، وتحقيق مبدأ السوق الحرة على أسس اقتصادية سليمة توفر المنتجات بالمواصفات المطلوبة وبالأسعار المناسبة من دون التجرؤ على حق المواطن في اختيار المنتج الملائم وبالسعر المناسب. هذا بالإضافة إلى توفير البنية التحتية من مواصلات واتصالات وطرق ومنح الإعفاءات الضريبية والجمركية بالقدر الذي لا يؤثر سلبًا في الصناعات الوطنية القائمة.

في كتاب بعنوان (التنمية الاقتصادية) للدكتور محمد زكي شافعي يتحدث فيه عن موضوع المدخرات الوطنية، ويقول «يتفق معظم الاقتصاديين على أن تجميع رأس المال الحقيقي (الناتج من المدّخرات) هو أحد أهم مصادر تمويل التنمية الاقتصادية. ويقتضي ذلك زيادة في المدّخرات الوطنية، مع وجود نظام مالي وائتماني يمكّن المستثمر من الحصول على الموارد ثم البدء في الاستثمار. ومن الأهمية بمكان أن تسلك الحكومات طرقًا عادلة لزيادة المدّخرات من خلال التوزيع العادل للموارد الطبيعية وكيفية استثمارها والكيفية المناسبة والعدالة لتعم على جميع المواطنين، وألا تؤدي الزيادة في المدّخرات إلى القضاء على الدوافع المشجعة للأنشطة الاقتصادية، كما يمكن أن يتم تجميع المدّخرات من خلال إصدار سندات حكومية.

ويرى الاقتصاديون أن هناك علاقة متبادلة بين الادخار والتنمية، إذ تتأثر التنمية بحجم المدّخرات المتاحة للاستثمار. وتظل تنمية المدّخرات محور السياسة الاقتصادية لضمان التمويل الكافي للاستثمارات المطلوبة والملائمة للوصول إلى التوظيف الكامل. ويطرح الاقتصاديون ما يسمى بالدورات الاقتصادية السيئة التي تقف حجر عثرة أمام زيادة المدّخرات في الدول الفقيرة حيث يكون مستوى الدخل الحقيقي عادة منخفضًا وهو بالقطع سبب في هبوط مستوى الطلب الذي يؤدي بدوره إلى قلة الاستثمار ومن ثم عجز في رأس المال المتاح لبدء دورة إنتاجية. ويرى الاقتصاديون أن من الأهمية تعزيز تعبئة المدّخرات المحلية التي تعدّ شرطًا من الشروط الأولية لتحقيق معدل مناسب من الاستثمارات ومن ثم التنمية الاقتصادية. ويمكن تحديد هذه الوسائل بما يلي:

‭-‬ ضرورة زيادة نصيب الفرد من الدخل القومي من خلال عدالة توزيع المدخول، لأنه المحدد الأساسي للطاقة الادّخارية، وهذا لن يأتي إلا من خلال الحد من ظاهرتي الفقر والبطالة.

‭-‬ تطوير قطاع التأمين وتحريره باعتباره من أهم آليات تعبئة المدّخرات الاجتماعية.

‭-‬ العمل على تخفيض كلفة فتح حسابات ادخارية.

هذا بالإضافة إلى أن تطوير أداء الصناديق الادخارية سيؤدي إلى توجيه احتياطياتها إلى الاستثمار في سوق رأس المال، وهو الأمر الذي ينعش الاستثمارات ومن ثم التشغيل وبدء دورات اقتصادية جديدة.

إلا أنه عندما نصل إلى هذه المرحلة في التحدث عن الاقتصاد والتنمية الاقتصادية فإنه تبرز أمامنا قضيتان، وهما:

‭-‬ أن الاقتصاد بهذه الكيفية يصبح أمرا مجردا من الإحساس البشري، فاقدا للقيمة البيئية والاجتماعية للموارد الطبيعية، فربما تجد بعض الدول نفسها تقف في مواجهة الفقر والحاجة إلا إذا قامت – مثلاً – بقطع أشجار الغابات الكثيفة التي تتمتع بها، وذلك بهدف بيع تلك الأشجار على أساس أنها أخشاب للسوق العالمية حتى تعيد التوازنات المالية بين السكان، قس على ذلك كل أنواع الموارد الطبيعية، فهل هذا ممكن؟ وكيف يمكن التحكم في ذلك؟

‭-‬ ما المؤشرات التي تجعلنا نطمئن إلى أن القيمة السوقية للموارد الطبيعية يتم توزيعها وفق العدالة والنزاهة بين أفراد المجتمع والحكومة والسلطة التنفيذية والتشريعية؟ ومن ثم كيف يمكن لهذه الموارد أن تحقق التنمية المستدامة في البلاد وبين العباد؟

لنحاول أن نتحدث عن هذه القضايا في المقال القادم.

Zkhunji@hotmail.com

عن admin

صحفي وكاتب ومستشار اعلامي

شاهد أيضاً

في الأكاديمية الملكية للشرطة.. كل خريج قصة أمنٍ واعٍ..بقلم د. بثينة خليفة قاسم

إن التعليم هو أعظم سلاح يمكن لأي دولة أن تمتلكه في معادلة الأمن الوطني، فلم …