تحية الفن والجمال..
أما بعد…
خلال زيارتي الأخيرة إلى لندن، أخذني الصديق الطبيب والفنان إبراهيم كوجان لرحلة انعشت الروح زيارة إلى معرض Tate Modern، ذاك الصرح العالمي الذي له قصة احب أن أذكرها ، فبين 1947 و1963 تم بناء محطة بنسكيد للطاقة لكنها توقفت عن العمل في 1981م، و في عام 1994 أُعلن عن اختيار تصميم معماري فني لتحويل هذه المحطة إلى متحف، وأُطلقت مسابقة عالمية فاز بها مكتب السويسري وافتتح المعرض عام 2000 على ضفاف نهر التايمز، وتحول منذ افتتاحه إلى واحد من أهم المتاحف في العالم لعرض الفن الحديث والمعاصر، محتضنا أعمالا لأمثال بيكاسو، مونيه، بورجوا، روثكو، ووارهول، خلال زيارتي شعرت أن هذا المعرض يُجري حوارات صامتة بين الحضارات، ويمنح الفنون مكانها المستحق في سردية الفن العالمي.
وكانت المفاجأة حين ظهرت أعمالك، أستاذي الصلحي، في قلب الحدث، هناك في قاعة تتنفس من طمي النيل وروح العاصمة الخرطوم، وقفتُ أمام لوحتك المرسومة عام ١٩٦٧ تحمل وجوها و حيوانات ناهيك عن اعمالك المعروفه مثل Reborn Sounds of Childhood Dreams I (1961-65)، تلك التي تشبه الحلم حين يتخذ شكلا، والتي يُقال إنها حجر الزاوية في الحداثة السودانية. إلى جوارها ظهرت لوحة Self-Portrait، وفيها تأملٌ داخلي نادر لفنان يرى نفسه بوصفه تاريخًا كاملا.
من يرى لوحاتك كمن يسمع قصيدة لم تكن مجرد ألوان، بل سرديات مشبعة بروح التصوف، والخط العربي، وتكوينات أفريقية تبحث عن هوية بصرية معاصرة، أنت من جعل من الحرف زخرفًا، ومن الرموز لغة، ومن الألم وسيلة للتعبير لا للاستسلام.
علمت انك وُلدت في عطبرة عام 1930، ودرست في كلية سلايد للفنون بلندن، ثم عدت لتكون أحد مؤسسي مدرسة الخرطوم، وهي من أهم الحركات الفنية التي مزجت المحلي بالعالمي، شغلت مناصب رسمية من بينها وكيل وزارة الثقافة، ثم مستشارا فنيا بالأمم المتحدة، حيث عملت على تطوير الفنون في أفريقيا والعالم العربي، وعرضت أعمالك في أهم صالات الفن، منها:
معهد العالم العربي في باريس، المتحف البريطاني، متروبوليتان نيويورك، بينالي الشارقة، متحف تيت، ومتحف الفن الحديث في الدوحة.
وقد اقتنت أعمالك جهات بارزة مثل: اليونسكو، المتحف البريطاني، Tate Modern، مؤسسة Barjeel للفنون، ومعهد سميثسونيان.
كرّمتك اليونسكو، وكنت من أوائل من حازوا على جوائز في بينالي الإسكندرية، ووسام الفنون الفرنسي، لكن أعظم وسام حظيتَ به، هو أنك منحتنا نحن أبناء الفن، مرآة نرى بها أنفسنا خارج الاستعمار البصري.
زيارتي للمعرض لم تكن زيارة لمكان، بل عبور نحوك، خرجت منه كأنني خرجت من تاريخي الخاص..
دم لنا فنك ، ذاكرة لا تُنسى.
منى الروبي
لندن – أغسطس 2025