كنت أول من عزف السلام الأميري في 1935 في تتويج حاكم البحرين الأسبق الشيخ حمد بن عيسى الكبير
تميزت البحرين بالريادة على دول الخليج وكانت الأولى في التعليم واستخراج البترول والاحصاء، والطيران..
الشروقي أول من طرح فكرة دورة الخليج العربي لكرة القدم وذلك في منتصف الستينات
أيادي آل خليفة البيضاء كانت ممدودة دائماًً لأخوانهم زعماء المنطقة الخليجية
أجري هذا الحوار مع الفقيد خالد ابواحمد في 2012
نحن اليوم في سياحة عبر الزمن نطوف من خلالها على الأيام التي شكّلت شخصية البحرين الحديثة، من خلال واحد يُعد من أبرز الذين عملوا في حقب الثلاثينات إلى الثمانينيات من القرن الماضي، وهو علم من أعلام البحرين وفذ من أفذاذ عائلة الشروقي العريقة.
الأستاذ عبدالله بن سعد الشروقي سجل التاريخ اسمه بأحرف من نور لما قام به من أعمال وطنية جليلة، وللدور الكبير الذي لعبه من خلال الكثير من المهام الرفيعة التي تولاها، وكان مصدر ثقة لحكام البحرين السابقين واللاحقين. تنقل من أصغر وظيفة وحتى منصب وكيل وزارة، وكان يقوم بالكثير من الأعباء بدافع القوة والنشاط وهو في مقتبل العمر، وتزامن عمله مع السنوات التي بدأت تتشكل فيها شخصية البحرين كدولة أثبتت وجودها بجهود أبنائها البررة أمثال ضيفنا الكريم.
كان الشروقي من الرعيل الأول في الخدمة المدنية، ساهم في تطوير العمل البلدي والعمل الإداري، وأفنى زهرة شبابه في خدمة البحرين في كافة المجالات دون استثناء. وقد برز في مواقف كثيرة؛ فهو أول من عزف السلام الأميري عام 1935، وأول من عمل مع الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة في تأسيس الاتحاد البحريني لكرة القدم، وأول من اقترح فكرة دورة الخليج لكرة القدم، وأول من درس التحكيم لكرة القدم في إنجلترا بمعهد مانشيستر عام 1956.
ذهبنا إليه في بيته العامر بمنطقة القضيبية بالمنامة فاستقبلنا بحفاوة وكرم بحريني أصيل. تذوقنا القهوة مع التمر وتبادلنا معه الأحاديث الجميلة وذكريات الصبا وأيام الشباب والحيوية والسعادة بالعمل من أجل البحرين. ومن خلال هذا اللقاء، الذي ساعدني فيه الأخ الكريم الأستاذ جاسم محمد الياس الشروقي، تجولنا في بعض صفحات تاريخ البحرين الحديث وأيام تأسيس الدولة ورجالاتها، وتعرفنا على أهمية وجود البحرين في المنطقة الخليجية والنظرة التي كان ينظر بها الآخرون للدور الريادي الكبير الذي اضطلعت به المملكة في كثير من القضايا.
كان عبدالله الشروقي لا يحبذ الحديث عن نفسه، وعندما تقاعد عن العمل طلبت منه الحكومة وتلفزيون البحرين أن يتحدث عن مسيرته العملية وعن شخصه، إلا أنه رفض ذلك معتبرًا أن حياته ملك له، وأن ما قام به هو واجب وطني لا يريد تسليط الضوء عليه. لكنه عندما تحدث عن ماضي البحرين وكيف كانت رائدة في المنطقة، بدأ يسرد بعض ما يتذكره من أحداث.
زيارة سعود بن عبدالعزيز آل سعود للبحرين
يقول إن الأحداث المهمة التي عاشها كثيرة وكانت له فيها مساهمات، لكنه يتذكر منها الزيارة الكبيرة التي قام بها ولي عهد السعودية آنذاك سعود بن عبدالعزيز آل سعود للبحرين، وكان من الذين كتبوا الخطاب الترحيبي وطبعوه على الورق عام 1936. كما شارك في تجهيز الاحتفال ومستلزماته، وكان في عز الشباب مفعمًا بالهمة والنشاط. في تلك الزيارة كانت البحرين مبتهجة وسعيدة، وهو ما يوضح مدى قوة العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين.
ويضيف أن الإدارات في ذلك الزمن كانت مزودة بطابعات وفرها المستشار الإنجليزي بلجريف، ذلك الرجل الذي يصفه بالداهية. بلجريف كان قد عمل في السودان مستشارًا أمنيًا أيام الحكم الإنجليزي، ثم جاء إلى البحرين بعد أن قرأ إعلانًا في إحدى الصحف البريطانية يطلب مستشارًا، فحصل على الوظيفة لما له من إمكانيات إدارية. ويتذكر الشروقي أن بلجريف كان له حرس شخصي اسمه عوافي، صومالي الجنسية ولاعب كرة قدم ماهر، وكان محبوبًا من الناس.
ويتحدث عن علاقته بكرة القدم، فيروي أنه في بداية الخمسينات كانت البحرين تتطلع إلى مواكبة التطور، ولم يكن يدري أنه سيكون له علاقة بهذا المجال رغم أنه لعب كرة القدم. يقول إنه في يوم من الأيام ذهب إلى مكتب الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، وكان آنذاك مديرًا لإدارة الإقامة والجوازات، للتباحث معه في أمر ما. وبعد أن انتهى من مهمته قال له الشيخ: لماذا لا تساعدني في إنشاء اتحاد كرة القدم للبحرين؟ فوافق الشروقي، وبالفعل تم التأسيس عام 1952، حيث تم تعيينه سكرتيرًا لرئيس الاتحاد، ثم نائبًا لرئيس اتحاد البحرين لكرة القدم منذ ذلك الوقت وحتى السبعينات. كانت توكل إليه كل المهام الإدارية وأعمال السكرتارية، وكان يجيد الطباعة على الماكينات الإنجليزية القديمة.
ويتابع قائلاً إن عملية التأسيس تمت بسهولة نسبيًا، فقد قاموا باتصالات كثيرة، وساعدهم الإنجليز العاملون في شركة النفط “بابكو”. ولم تكن هناك تعقيدات كبيرة. ويؤكد أنه هو من طرح فكرة دورة الخليج لكرة القدم، وكان ذلك على ما يعتقد في منتصف أو نهاية الستينات. يتذكر أنه كان يرأس بعثات المنتخب البحريني لكرة القدم للعب في الدول الخليجية، ومنها بعثة إلى الكويت خسر فيها المنتخب البحريني المباراة، وأخرى إلى قطر. ومن خلال هذه التجارب أدركت دول الخليج الحاجة إلى دورة تنافسية في كرة القدم، لكونها دولاً شقيقة تربطها الكثير من الروابط الاجتماعية والاقتصادية، فرأى أن هذه الدورة ستقوي أواصر العلاقات بينها.
المنامة قبلة للزوار
ثم ينتقل للحديث عن البحرين في ذلك الزمن مقارنة ببقية دول الخليج العربي، فيقول إن البحرين كانت متطورة في بداية الخمسينات، بينما كانت السعودية وبقية الدول في بدايات البحث عن النفط والتطور. ويشير إلى أن المنامة صارت قبلة للزوار من أهل الخليج، خصوصًا أن مطار البحرين قد تأسس عام 1937 ليستقبل الطائرات من الدول الكبيرة قبل إنشاء المطارات الأخرى. كان المطار عبارة عن أرض مسطحة، وفي عام 1950 بدأت الخطوط البريطانية تصل بانتظام إلى مطار البحرين الدولي في المحرق باسم “برتش إمبريال إيرويز”.
ويؤكد أن البحرين كانت ملتقى طرق بحرية أيضًا، يأتيها أهل الخليج للتسوق والتبضع والتزود بالمطبوعات، وكانت المنامة حلقة وصل بين البصرة والكويت ودبي ومسقط وبيروت وبومبي. وكانت محطة مهمة في المواصلات البحرية والجوية على السواء. ولهذا كانت البحرين بوابة الخليج لدخول الثقافة، إذ عبرت إليها ثقافات متعددة، وكان التعامل مع الزوار والتجار سببًا في تفردها الثقافي والمعرفي.
ويستعيد تفاصيل أخرى، منها أن الصحف المصرية كانت تصل بانتظام، مثل “اللطائف المصورة” و”الأهرام”، وكان الناس يقرؤونها في الأندية الأدبية المنتشرة في مدن البحرين. في المحرق كان الشباب والمثقفون يتجمعون في المنتدى الإسلامي قرب بناية المؤيد، يطالعون الصحف ويتناقشون في الأدب والثقافة. كما يشير إلى مكتبة الأستاذ سلمان كمال التي كانت مقصدًا للبحرينيين والخليجيين للحصول على الكتب والصحف القادمة من مصر ولبنان والعراق. ويؤكد أن هذا التواصل البحري والثقافي بين البحرين والبصرة وبيروت والقاهرة أتاح للبحرينيين الاطلاع على أحدث الإصدارات من الشعر والرواية وغيرها.
ويتحدث عن مظاهر ريادة البحرين، فيقول إنها كانت الأولى في إنشاء البلديات، واستخراج البترول، وإجراء الإحصاء (إذ أشرف بنفسه على أول تعداد عام 1952 وكان عدد السكان 52 ألفًا). كما كانت الأولى في استقبال الطيران العالمي، والأولى في إنشاء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية، والأولى في ابتعاث المدرسين للخارج. وقد اشتهرت مدينة الحد بالمدرسين الذين عملوا في البحرين وفي دول عربية أخرى.
قصته مع التحكيم
ثم يسرد قصة طريفة عن دراسته التحكيم في إنجلترا. فقد بعثه رئيس البلدية الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة إلى هناك في إطار عمله، وصادف أن كان في ميدان كرة قدم يشاهد مباراة، فطلب منه اللاعبون الإنجليز أن يحكم لهم. وافق وحكم المباراة بجدارة، فأعجبوا به واقترحوا أن يدرس التحكيم. عاد إلى البحرين ثم رجع مرة أخرى إلى إنجلترا، فالتحق بدورة تحكيم في معهد مانشيستر، وامتحن وحصل على الشارة التي تؤهله لذلك. احتفظ بها طويلاً، لكن أولاده أضاعوها لاحقًا.
ويذكر أن فترة غيابه في إنجلترا أثرت على العمل لأنه كان يحمل أعباءً كبيرة، منها الطباعة والرسائل والمذكرات. وعندما عاد انكب على العمل ليعوض فترة غيابه.
ويواصل سرده عن أيام التنقيب عن النفط في البحرين بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جاءت أول شركة بقيادة أسترالي يدعى مستر هومس حصل على امتياز ثم باعه لشركة بابكو. كما يذكر أول مدير لشركة بابكو وكان اسمه مستر اسكنر.
ويستعيد أيضًا بدايات التعليم في البحرين، فيشير إلى أن المبشرين الإنجليز جاءوا إلى البصرة ثم إلى البحرين عام 1898، وافتتحوا أول مستشفى وهو مستشفى الإرسالية، ثم مارسوا التعليم كمدرسة تبشير. وبعدها انتبهت الحكومة البحرينية فأنشأت مدرسة الهداية الخليفية في المحرق، ثم مدرسة أخرى في المنامة التي درس فيها هو شخصيًا. ويذكر أن أهل المحرق كانوا يعتزون بمدرستهم ولا يعترفون بالمدرسة الثانية.
آل الشروقي من بادية دبي
ويشير إلى أن مدرسة الهداية في المنامة تغير اسمها لاحقًا إلى “مدرسة أم المؤمنين”، لأنها كانت في حارة يسكنها الشيعة. كان أساتذتها من سوريا، وآخر مدير لها كان فلسطينيًا من غزة، وكان صديقًا للأسرة.
وعن أسرته، يقول إن آل الشروقي من بادية دبي، وهم أهل بحر وأصحاب سفن كبيرة، عملوا في الغوص وتجارة اللؤلؤ والنقل البحري. وقد استأجرهم آل خليفة لنقل أغراضهم من الزبارة إلى البحرين، ثم طلبوا منهم أن يقيموا فيها. فأعطوهم قطعة أرض في منطقة الحد حيث لا يزالون يقيمون. وقد شارك أبناء الشروقي لاحقًا في نهضة البحرين.
ويستحضر قصة استقبال الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة عام 1919 بعد عودته من علاج في لندن، وكيف احتفلت المحرق والمنامة بقدومه، في مشهد يعكس وفاء الأهالي.
ويبين أن حب أهل المحرق لآل خليفة سببه أن الشيوخ عاشوا بينهم وصاهروهم، ولم ينفصلوا عن الناس، ما خلق علاقات قوية وراسخة.
ويذكر علاقاته بالشيوخ، ومنها تكليف الشيخ عيسى بن سلمان له بمرافقة حاكم أم القيوين أحمد المعلا إلى الهند للعلاج عام 1973، ومنحه حوالة مالية مفتوحة للصرف. وبعد نجاح المهمة أرسل لهم الأمير طائرة خاصة لإعادتهم إلى البحرين. كما يروي أن ابن حاكم أم القيوين راشد بن أحمد المعلا طلب لاحقًا علاجه في البحرين، وتم ذلك. ويؤكد أن حكام الخليج كانوا يتعاونون كعائلة واحدة، وأن البحرين سبقتهم جميعًا في التطور وتقديم الخدمات.
ويستعيد أيضًا مهام البلديات في الثلاثينات، فيقول إنها كانت تقوم بكل شيء: تنظيم الأسواق والمحلات والمرافق، والنظافة بأسطول ضخم من السيارات، والتفتيش الصحي، وكان البحرينيون هم من يقومون بهذه الأعمال بكل فخر.
ويختم باستذكار المواقف التي لا ينساها، ومنها مشاركته وهو طفل في الثامنة في عزف الموسيقى عند تتويج حاكم البحرين الأسبق الشيخ حمد بن عيسى الكبير، حيث تعلموا العزف على يد ضابط إيراني هارب اسمه هاشدان. ومن المواقف أيضًا أنه كان أول من عزف السلام الأميري في البحرين عام 1935، وهو حدث بقي محفورًا في ذاكرته وذاكرة الوطن.