تقرير البحرين/خالد ابواحمد/
في ذاكرة البحرين المتشبعة بالأمواج والرجال، يقف النوخذة سنان بن جمعة بن محمد كأحد أولئك النبلاء الذين لم تكتب لهم سطور التاريخ الرسمية، بل خلدتهم ذاكرة الناس. كان قائدًا لسنبوق سماه سمحان، والاسم لم يأتِ عبثًا، بل انعكاس لما في قلب صاحبه من سماحة وأريحية. وكان سمحان مهابًا، مرتفعًا كقلعة في عرض البحر، يعرفه الغواصون والتجار كما يعرفون قادة الغوص الكبار.
سنان..طويل القامة، يشع الاحمرار في وجهه، ولحيته الكثيفة تشهد على تدينه، وبيته مفتوح، مجلسه لا يُغلق، بعد المغرب يجتمع فيه الناس، وبعد الفجر ينصت فيه إلى المارة والزائرين، ويمد إليهم يد كرمه الذي لا يعرف المدى.
تزوج أربع نساء، ورزقه الله ذرية واسعة، لكن مشيئته جلّ وعلا لم تبقِ له سوى ولدين: عبد الله وأحمد. توفي أحمد مبكرًا وترك ولدًا واحدًا هو يوسف، الذي سرعان ما اختطفه القدر أيضًا، تاركًا زوجته الحامل التي أنجبت ولدًا سُمي يوسف بن يوسف، ولم يُكتب لأحمد ذرية بعده. بقي عبد الله —الملقب بـ”ولد سنان”— شاهداً على هذا الامتداد المتناقص، يحمل الاسم ويحفظ الذاكرة.
وفي مساء من أمسيات العمر، وبين المغرب والعشاء، كان ولد سنان متجهًا إلى الحظرة حين لمح رجلاً غريبًا عند باب الجامع، يتلفت حائرًا. سلّم عليه، وسأله عن وجهته. أجاب الغريب: “أين مجلس الراشد؟” فأخبره عبد الله أنه مغلق. عرض عليه أن يصحبه إلى مجلسه، فقبل الرجل.
جلس الغريب بين رجالات الحي، ودعا عبد الله زوجته لإعداد الطعام. وقبل أن يخرج عبد الله إلى الحظرة، سأله الضيف: “إلى أين؟” فأجابه: “إلى الحظرة.” ابتسم الغريب وقال: “الله معك.”
هناك وجد عبد الله بحر الخير قد جاد، والسمك يفيض من الحظرة. نادى جيرانه من أهل الحي الشرقي، فتقاسموه، ثم عاد إلى بيته، فوجد الضيف قائمًا يصلي. أحضر له الطعام، فجلسا وتحدثا. وحين سأله الضيف عن ذريته، أجابه عبد الله بحزن: “لم يرزقني الله ولدًا… كل من أنجبته مات قبل أن يبلغ الخامسة عشرة.”
صمت الضيف، ثم قال له: “سوف ترزق ولدًا، فسمّه محمد وكنّه الياس.” فأجاب عبد الله بقلب مؤمن: “بإذن الله.”
وفي تلك الليلة، وبعد أن أعدّ له السجادة والفرش والماء، أغلق عليه الباب ليرتاح. لكنه، في منتصف الليل، استيقظ على رائحة طيبة تعمّ البيت. تتبعها حتى وصل إلى المجلس، ففتحه فإذا بالرجل يصلي ويتضرع، والرائحة الزكية تنبعث من حوله. أغلق الباب وعاد إلى زوجته قائلاً: “الرائحة من عند ضيفنا… شيء عجيب!”
وفي صلاة الفجر، ذهب ليرافقه إلى المسجد، لكنه فوجئ باختفائه. السجادة مطوية، والفراش في مكانه. لم يكن للغريب أثر.
هرع عبد الله إلى الشيخ عبد اللطيف بن محمود، القاضي وخطيب جامع الحد، فقصّ عليه ما حدث، فأجابه الشيخ مطمئنًا: “لقد استضافك أحد أولياء الله الصالحين.”
وبعد فترة، ولدت له زوجته غلامًا، أسماه محمد وكنّاه الياس، كما أوصى الرجل. كبر الياس، فكان بارًا بوالديه، كريمًا، وجيهًا بين الناس، مثل أبيه وجدّه. وذات يوم، توفي والداه وتركاه صغيرًا مع أخته فاطمة. تولّت أمره عمّته “أم البنين”، وخصصت غرفة في بيت خالها خميس بن جمعة لأيتام المسلمين. تربى ولد سنان الصغير بين الأيتام، حفظ القرآن، ثم ركب البحر مع أبناء عمومته، محافظًا على تراث أهله وسيرة الكرم.
واليوم، لا يزال مجلس ولد سنان عامرًا، يرفرف فيه عبق البركة، وتُروى فيه سيرة سنان وسمحان… وسيرة الغريب الذي حمل بيده وعدًا من السماء.
