الرئيسية / أخبار / التشكيلي والرسام محمد حامد شداد: الفنان الذي كسر قواعد العرض

التشكيلي والرسام محمد حامد شداد: الفنان الذي كسر قواعد العرض

حوار: مصعب محمدعلي

في مرسمه الهادئ.. المكدّس بالذكريات.. يجلس الفنان التشكيلي محمد حامد شداد كمن يراقب العالم من وراء طبقات اللون. رجلٌ عاش الفن كموقف لا كزخرف، وجرّب أن يصوغ الجمال من فكرة، لا من زخرفة، وأن يختبر حدود العرض حتى نهاياتها القصوى.

شداد هو الفنان الذي جعل الجمهور جزءًا من اللوحة، والمتلقي مادة في العمل نفسه، فاستحق لقب “الفنان الذي كسر قواعد العرض”.

في هذا الحوار نستعيد معه محطات تجربته، من “الإنسان الجالس” إلى “معرض الثلج”، ومن دهشة التشريح إلى رحلات المتاحف الأوروبية، ومن الأسئلة الأخلاقية في الفن إلى التصوف كمنهج معرفة وجمال.

كيف تتذكر بداياتك وجربتك الأولى مع العرض الفني المختلف؟

: منذ البدايات كنت مشغولًا بفكرة العرض الجماهيري. أردت أن يكون الجمهور جزءًا من الفعل الفني، لا مجرد متفرّج. في معرضي “الإنسان الجالس”، جلست أنا نفسي على المنصة، وبجانبي قطعة لحم كبيرة وأرغفة خبز. أردت أن أجعل من المعرض مواجهة مفتوحة بين الفنان والناس، بين الجمال والدهشة، بين المقدّس واليومي. استفز ذلك الطلاب فأقاموا محكمة رمزية وحكموا عليّ بعشر جلدات! كان ذلك بالنسبة لي دليلًا على أن المعرض قد لمس شيئًا عميقًا في الوعي الجمعي.

 يقال إن طلاب كلية الفنون كانوا يعيشون تجربة إنسانية وروحية معقدة خلال دروس التشريح. كيف أثّرت تلك المرحلة فيك؟

نعم، كانت تجربة التشريح صادمة في البداية. أن ترى الجسد الإنساني ممددًا في أحواض الفورملين، وأن تُفكك طبقاته بعيون الرسام لا الطبيب، فذلك يفتح أسئلة روحية وأخلاقية لا تنتهي. كنت أسأل نفسي: هل الجمال يمكن أن يمر عبر الموت؟ هل المعرفة تبرّر النظر في الجسد؟ من هناك بدأ اهتمامي بالتصوف، فقد بدا لي أن الفنون والتصوف يلتقيان في منطقة واحدة: التأمل في الوجود بعمق وصدق.

ذكرت أنك كنت ترسم في المنام، هل هو مجاز أم تجربة حقيقية؟

ليست مجازًا بالكامل. الطالب في كلية الفنون يتحوّل بعد عامين إلى كائن مشغول بالألوان والخطوط حتى في نومه. كنا نذهب إلى السينما لا لمتابعة الفيلم، بل لمراقبة الألوان وتداخلاتها. كنا نرى اللوحات في المنام ونواصل الرسم ونحن نائمون. إنها حالة من الانغماس الكامل في العالم البصري.

حدثنا عن رحلاتك إلى أوروبا، وكيف غيّرت نظرتك للفن؟

كنت أرى أن الكتب والصور لا تكفي، فقررت أن أرى اللوحات والتماثيل بأعينها. زرت اليونان وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا. وقفت أمام تماثيل مايكل أنجلو ولوحات دافنشي، فرأيت الفرق بين الصورة والمجسّد، بين النسخة والأصل. تعلمت هناك أن الفن في أوروبا ليس ترفًا، بل قضية قومية. أذكر أن الحكومة البريطانية قررت بيع لوحات صغيرة من متحف “الناشيونال غاليري” لتغطية التكاليف، فثار الناس، وتبرع المواطنون حتى جمعت الدولة الملايين. عندها أدركت أن الفن هناك له قداسة تشبه الدين.

لنعد إلى بداياتك في السودان، ما قصة “معرض الرغيفة”؟

كان أول معرض لي في كلية الفنون. عرضت رغيفة خبز مدوّرة تلامس مثلثًا ملوّنًا بالأحمر. كنت أبحث في العلاقة بين الشكل والمعنى، بين الخبز كمادة يومية والمثلث كرمز كوني. لكن بعض الزملاء، ومنهم حسن موسى، أكلوا الرغيفة ورددوا “الفن للحياة”. في البداية غضبت، ثم أدركت أن فعلهم ذاته جزء من المعنى الذي كنت أبحث عنه: لوحة تؤكل وتشبع!

ومعرض “النفايات”؟ كان الأكثر جدلاً آنذاك.

أقمت المعرض في غرفة مظلمة، ومعي بطارية أوجه بها الضوء كما أشاء. كان هناك هيكل عظمي، قطعة لحم، خضروات، زجاج مكسور، ومرحاض. كنت أقول إن ما نراه قبيحًا في عالم الملك ليس كذلك في عالم الملكوت. المعرض لم يكن عن القبح بل عن المعنى، عن إمكانية أن يُرى النور في العتمة.

ثم جاء معرض “الثلج” في ميدان أبو جنزير، حدثنا عنه.

كان أول معرض مفتوح بهذا الشكل. وضعت ألواحًا من الثلج على طاولات، ودمى بلاستيكية، وأكياس حبر. كان الجمهور يرى المعرض يتغيّر كل دقيقة، فكلما ذاب الثلج تجدد المعرض. أردت أن أجسّد فكرة “الصيرورة”، أن الفن ليس شيئًا ثابتًا، بل حالة من التحول المستمر. البعض كتب قصائد عن المعرض، وآخرون اعتبروه “جنونًا”، لكني رأيته درسًا في أن الجمال يعيش في لحظة زواله.

كنت من الذين جمعوا بين الفن والتصوف. كيف تصوغ هذه العلاقة اليوم؟

التصوف بالنسبة لي هو معرفة حدثية، لا عقلية ولا تجريبية. إنه الحفر العميق في الذات الإنسانية. الشيخ الصوفي حين يكتب وردًا أو ذكرًا إنما يمارس فعلًا تجريبيًا روحيًا يشبه فعل الفنان حين يجرب اللون أو الشكل. كلاهما يبحث عن الحقيقة، وإن اختلف الطريق. كنت أرى أن الفن يمكن أن يجسّر بين نظرية المعرفة والتجربة الصوفية، لأن كليهما يشتغل على “الحدث” و“الذوق” لا على العقل وحده.

أخيرًا، كيف تنظر اليوم إلى مسيرتك الطويلة بين الجدل والإبداع؟

ربما لم أقدّم لوحات كثيرة، لكني قدّمت أسئلة. واعتقد أن الفن الحقيقي ليس في الإجابة بل في القدرة على طرح السؤال الذي يوقظ الروح. نحن لا نرسم العالم كما هو، بل كما يمكن أن يكون.