الرئيسية / أخبار / أين العدالة الدولية والضمير الإنساني من غزة الفلسطينية والفاشر السودانية..؟.بقلم خالد ابواحمد

أين العدالة الدولية والضمير الإنساني من غزة الفلسطينية والفاشر السودانية..؟.بقلم خالد ابواحمد

أين العدالة الدولية؟ وأين الضمير الإنساني الذي طالما تغنّى به العالم في مواثيقه وشعاراته؟ سؤال يفرض نفسه اليوم من قلب غزة، حيث يعيش أهلها لحظة فارقة في التاريخ الإنساني لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل. فالموت هناك لم يعد حدثًا عابرًا أو مأساة محلية، بل تحوّل إلى مشهد عالمي تُبث تفاصيله على الهواء مباشرة، أمام كاميرات الفضائيات وشاشات التلفزة، وكأنها منافسات كأس العالم، لكن هذه المرة البطولة فيها للدمار، والجوائز توزّع على أطلال المدن وأجساد الأطفال.

إن ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل هو مجزرة ممنهجة تُرتكب بحق شعب أعزل محاصر، يواجه آلة عسكرية لا تعرف الرحمة. تُقصف المنازل على ساكنيها، وتُستهدف المدارس والمساجد والمستشفيات، في انتهاك سافر لكل الأعراف والمواثيق الدولية. لكن الأكثر فظاعة هو أن كل ذلك يحدث والعالم يكتفي بالمشاهدة، يكتفي بالتنديد الخجول حينًا، أو بالصمت المطبق أحيانًا أخرى، في صورة تكشف زيف القيم التي طالما تغنّى بها الغرب عن حقوق الإنسان والعدالة الدولية.

غزة اليوم تقف كجرح مفتوح في ضمير العالم. فكيف يمكن أن تُرتكب هذه الجرائم أمام أعيننا جميعًا، ثم نتساءل عن معنى العدالة، أو عن جدوى المؤسسات الدولية التي صمتت حتى فقدت هيبتها؟ أين مجلس الأمن الذي من المفترض أن يكون حارسًا للسلم العالمي؟ وأين محكمة الجنايات الدولية التي تدّعي اختصاصها في ملاحقة مجرمي الحرب؟ بل أين الضمير الإنساني الذي وعد البشرية بألا تتكرر مآسي الحروب العالمية والمجازر الكبرى؟

مثلما نحزن ونتجرّع الألم للحصار القاسي الذي تعيشه مدينة الفاشر العزيزة في دارفور، نحزن ونتألم أشد الألم لما يحدث في غزة، فالفواجع تتشابه في وحشيتها، لكن في غزة الجريمة مضاعفة لأنها تُرتكب تحت أنظار العالم كله، وبث حي ومباشر، دون أن تتحرك ضمائر أو تُتخذ قرارات توقف نزيف الدم.

أهل الفاشر وغزة لا يعيشون مجرد حرب، بل يعيشون امتحانًا وجوديًا، وصراعًا يوميًا من أجل البقاء. هم يقيمون على الأطلال، في بيوت مدمرة بلا سقوف، وفي شوارع تحوّلت إلى مقابر جماعية. ومع ذلك، تجدهم صامدين، يقاومون بالدمع، بالصبر، بالكلمة، وبالذاكرة. إنهم يشكّلون اليوم شهادة للتاريخ، شهادة على عجز العالم، وعلى فشل الإنسانية في الدفاع عن نفسها أمام جبروت القوة.

ولعل من أفظع ما كشفت عنه هذه الحرب هو المذبحة الكبرى التي تعرّضت لها الصحافة. عشرات الزملاء الصحفيين الفلسطينيين ارتقوا شهداء أثناء قيامهم بواجبهم المهني، حاملين كاميراتهم وأقلامهم، ليكونوا شهودًا على الجريمة. لقد دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة، فسجّلوا بدمائهم أضخم مذبحة للصحفيين في تاريخ المهنة. هؤلاء لم يكونوا مجرد ناقلين للأخبار، بل أصبحوا بأنفسهم الخبر الأبرز، وأسماؤهم ستبقى محفورة في سجل المهنة كأيقونات للنضال الإنساني.

إن استهداف الصحفيين ليس تفصيلًا عابرًا في مشهد الحرب، بل هو دليل على رغبة الاحتلال في إسكات الحقيقة، في طمس الذاكرة، في قتل الشهود قبل أن يُقتل الضحايا. ومع ذلك، فشلوا في تحقيق هذا الهدف، لأن دماء الصحفيين تحوّلت إلى لغة جديدة، تروي للعالم تفاصيل ما جرى، وتؤكد أن الكلمة والصورة أقوى من الرصاصة.

اليوم، ونحن نتابع ما يجري في الفاشر وفي غزة، علينا أن ندرك أننا لا نرى فقط مآسي أحياء فقدوا بيوتهم وأحباءهم، بل نرى انهيار النظام الدولي، وانكشاف عجز المؤسسات التي بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية على وعد “لن يتكرر ذلك أبدًا”. لكنه يتكرر اليوم  بل بأكثر قسوة ووقاحة.

أين العدالة الدولية؟ سؤال يصرخ في وجوهنا جميعًا، ولا يجد إجابة. أين الضمير الإنساني؟ سؤال يطاردنا كلما شاهدنا طفلاً يُنتشل من تحت الركام، أو أمًا تحتضن جثة ابنها. أين العالم الذي ادّعى يومًا أن القانون فوق القوة؟ إننا أمام لحظة اختبار حقيقية، إمّا أن تنهض الإنسانية وتستعيد ضميرها، وإمّا أن تدخل في ظلام طويل عنوانه “شريعة الغاب”.

رحم الله شهداء الفاشر وكذلك شهداء غزة ورحم الله شهداء الصحافة الذين سطّروا بدمائهم ملحمة لن ينساها التاريخ. إنهم صاروا عنوانًا للحرية، وشهداء للحقيقة، ونذيرًا للبشرية بأن صمتها ليس حيادًا، بل مشاركة في الجريمة. سيكتب التاريخ أن غزة لم تُترك وحدها، بل تركها العالم بأسره، ومع ذلك صمدت، وبقيت تنبض بالحياة رغم الدمار.

إن الإنسانية اليوم على المحك، والتاريخ لن يرحم المتخاذلين. وغزة، رغم جراحها، ستبقى تذكّرنا جميعًا بأن الحق لا يموت، وأن الشعوب قد تنكسر لكنها لا تُهزم.