الرئيسية / أخبار / البايومورفك.. شكل الحياة..

البايومورفك.. شكل الحياة..

كان الفنان جان آرب عام 1932 جالسًا في مرسمه محاطًا بأوراقٍ ملونة وقصاصات عشوائية، يشرب قهوته السوداء ويتأمل الجدار الأبيض الذي ينتظر ولادة فكرة. فجأة، وبمحض صدفة، أسقط ورقةً من يده فاستقرت على الأرض بطريقة غريبة، فابتسم قائلاً: “هذه هي اللوحة!”. لم تكن مزحة. لقد كان جان آرب يؤمن أن الصدفة هي أعظم فنان، وأن الطبيعة تعرف أكثر منا.

جان آرب، أو هانز آرب، هو أحد مؤسسي فن البايومورفك، رجل يعشق الفوضى الخلّاقة، ويخلق منها نظامًا بصريًا يثير الحواس. لم يكن يرسم تفاحة أو وجهًا أو شجرة، بل يرسم إحساس التفاحة، دفء الوجه، روح الشجرة. لوحاته ومنحوتاته تتلوى وتتمدد وتلتف كما تفعل الخلايا في الميكروسكوب أو كما ترقص الطحالب في قاع البحر. إحدى منحوتاته الشهيرة “الغيوم الراقصة”، تتخذ شكلًا عضويًا ناعمًا يشبه طفلًا نائمًا يحلم، وتُعرض اليوم في متحف غوغنهايم في نيويورك.

(البايومورفك) كمصطلح مشتق من كلمة bios التي تعني الحياة وكلمة morphē  التي تعني الشكل يُشير إلى الأشكال التي تُحاكي الكائنات الحية أو تُوحي بها كالمنحنيات والأشكال العضوية السائلة والمستوحاة من الطبيعة، بدلًا من الأشكال الهندسية أو الميكانيكية الصارمة، فهذا ألفن ليس بصريًا فحسب، بل هو فلسفة تتحدى الحدود، فهو لا يهتم بالمنطق أو الشكل الهندسي، بل يحتفي بالغموض والانسياب. الألوان فيه ليست للتزيين، بل للهمس، الخطوط لا ترسم شيئًا، بل تهمس بشيء. الفنان لا يفرض فكرته، بل يخلق عالماً يتيح للمتلقي أن يرى فيه نفسه.

وفي إحدى لقاءاتي بجريدة محلية تحدثت عن مدى سحر هذا الفن، وقلت “البايومورفك يشبه النفس العميق بعد البكاء لا تراه الناس، لكنك تشعر أنه كان ضرورياً لتستمر”، وشرحت كيف أن هذا الفن يستفز الخيال الإنساني، ويصلح بشكل خاص لفنون العلاج والإبداع الحر، الذي أمارسه لأنه يحرر العقل من القوالب الجاهزة، ويمنح اليد حرية أن تتبع القلب لا العقل.

ومن أطرف القصص التي يُروى عنه، أن أحد النقاد المعروفين وقف أمام عمل لآرب مطوّلا، ثم تمتم قائلا “أعتقد أن هذا شكل أمي وهي توبخني”، ضحك الحاضرون، لكن آرب أجابه بجديّة قائلا “إذا رأيت أمك، فهي أمك، إذا رأى غيرك بحيرة، فهي بحيرته، العمل ناجح لأنه صادق.”

البايومورفك هو الفن الذي لا يكتمل إلا حين تراه، لا يكتفي بالعين، بل يحتاج قلبا يتورط، هو مساحة بلا حدود، شكل بلا تعريف، لكن حين تنظر إليه… تشعر أنك رأيته من قبل، ربما في حلم، أو في أعماقك.