كتاب (الوطن العربي في فكر حمد بن عيسى) للمؤلفة البحرينية د. لولوة بو دلامة، الذي احتضنت فعالية تدشينه مؤسسة الأيام للنشر، وبرعاية ودعم مقدر لمستشار عاهل البلاد المعظم للشؤون الإعلامية، أ. نبيل الحمر، هو دون شك، إضافة مهمة وضرورية، وخطوة بحثية أولية لمواصلة التعمق في سياقات هذا الفكر الحداثي المتأسس على قواعد الدولة البحرينية المتمسكة بوسطيتها واعتدالها في كافة المواقف والسياسات، والمحافظة، في الوقت ذاته، على ثوابت الشخصية الوطنية، كشخصية عربية مسلمة، تتحد مع الوطن العربي الكبير في الانتماء القومي، وتتشارك مع أمتها الإسلامية في العقيدة والقيم الروحية والإنسانية.
ولقد توفقت وتفوقت مؤلفة الكتاب في الإيفاء بثلاثة اعتبارات أساسية في اجتهادها البحثي المشكور، للتعريف بأهم ملامح هذا الفكر الذي تعتز به البحرين، ويستشعره كل مهتم ومطلّع على مسيرة العمل الثرية لقائد «عروبي» بامتياز.
وأول تلك الاعتبارات، توضيح المكانة الرفيعة التي تحتلها القضايا العربية في وجدان وعقل العاهل المعظم، الذي نعتبره، انعكاسًا طبيعيًا للشعور القومي المتأصل للإنسان البحريني وانصهار وعيه التاريخي في وعي أمته، والفخور بانتسابه للكينونة العربية، كجزء لا يتجزأ من وطنه الأكبر.
أما ثاني ما يميز الكتاب، إنه أول إصدار يبدأ بالنزول في عمق هذا الفكر الإصلاحي، وذلك بهدف فهمه وتتبع أثره، ولوضع النقاط على حروف هذه السردية الوطنية بموضوعية تعتمد المنهج العلمي كأساس لها.
وثالثًا، حُسن اختيار التوقيت بالتزامن مع «قمة البحرين» التاريخية المرتقبة، ومناسبة اليوبيل الفضي لحكم جلالته، والبحرين تستمر بالاحتفاء بإنجازات العهد الزاهر خلال هذا العام.
ورجوعًا إلى مضمون الكتاب، فإن أول ما سيختبره القارئ عند التنقل بين فصوله، الدخول في رحلة فكرية تبحر بين محطات مفصلية في مسيرة التاريخ الحديث للوطن العربي بقضاياه وأحداثه وتقلبات مشهده، ليستنتج من خلالها، طبيعة وأبعاد المواقف الثابتة للعاهل المعظم تجاه تلك القضايا، التي هي في الواقع، حجر الزاوية للسياسة البحرينية الخارجية المتميزة بوضوح رسائلها ورجاحة توجهاتها.
كما سيلاحظ المتمعن في سطور الكتاب، بأن معاصرة جلالته لقضايا وطنه الكبير قد شكلّت وعيًا متجذرًا في متطلبات نهوض أمته العربية، لتبلغ مكانتها المستحقة، كأمة عُرفت بتنويرها الحضاري في أحلك عصور التاريخ القديم، حيث نجد جلالته، بين أول المتفاعلين والمبادرين تجاه ما يمس وحدة الصف العربي، لإيمانه التام بأن مؤازرة قضايانا القومية، ليس فعلاً مؤقتًا يتأثر بالطارئ من الأحداث، وإنما تقليد بحريني أصيل يدخل في صميم نشأتها وتأسيسها كدولة عربية الهوى والهوية.
وقد يتساءل البعض، عن الأسباب التي أدت إلى هذا الارتباط الوثيق بين فكر وشعور جلالته تجاه حتمية تقدم العالم العربي، الذي هو اليوم، في أمس الحاجة لاستعادة مكانته كلاعب رئيسي في ضبط إيقاع التوازنات الاستراتيجية لضمان استقرار المنطقة وازدهارها، وهو تساؤل مشروع، نجيب عليه، باختصار وتواضع شديدين، لموضوع يطول الحديث عنه:
1)- تنامي الوعي المبكر لجلالته للقضايا العربية، بحكم النشأة الخليفية العروبية، وتعليمه الوطني باتجاهاته القومية، إلى جانب الممارسة الميدانية المبكرة، التي كوّنت هذا الفهم والارتباط العميق بالواقع العربي.
2)- حرص جلالته والتزامه بتوثيق الروابط العربية وبتوجيه السياسة البحرينية لتواصل مساعيها في تكثيف مبادراتها الدبلوماسية القائمة على التفاهمات الودية وتقريب وجهات النظر لحل القضايا العالقة والمعطلّة للانطلاقة المرجوة لمسيرة العمل العربي.
3)- أما عندما تدق ساعة الحرب، التي يرفضها هذا الفكر المتسامح والداعي للتقارب والوئام الإنساني، فالبحرين تكون على أهبة الاستعداد للدفاع عن وحدة وسيادة الأراضي العربية.
4)- انغماس فكر جلالته في قضايا وطنه الكبير وانشغاله بإيجاد الحلول الواقعية والعملية لتجاوز العقبات والتحديات التي يعاني منها الجسم العربي، خصوصًا ما ارتبط بتحقيق السلام الشامل لإنهاء أطول وأقسى صراع في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، الذي استنزف ما يكفي من مقدرات الأمة العربية.
5)- ولعل أهم ما يتميز به هذا الفكر المتشرّب بالقضايا والشجون العربية، قناعته الكاملة بأن بلوغ هذه الأمة لمكانتها المنشودة، لن يتحقق إلا بالإيفاء بثلاث متطلبات أساسية، تتمثل في إصلاح الأوضاع الداخلية لأجل صحوة عربية تعي متطلبات التنافس الحضاري وتحترفه، والتمسك بإحياء التضامن والترابط الفعّال لاكتساب مواصفات التكتل الاتحادي القادر على المناورة والتأثير في مجرى الأحداث، وبالعمل الجاد من أجل تنمية حقيقية تمكّن المواطن العربي من الارتقاء بإمكاناته وبتحمل مسؤولية النهوض بواقعه.
وجميع تلك المتطلبات، قد أُخذت في اعتبار مشروع جلالته الوطني الإصلاحي، ساري المفعول، وتبرهن لنا نتائجه، بأن «قول» قائد المسيرة سيظل مقترنًا بـ«الفعل» منظور الأثر، ليستمر «النموذج البحريني» في الحفاظ على شؤون بيته، وبجعل تجربته نموذجًا مشعًا لجيرانه في المنطقة بحكم ما يمتلكه من إرادة إنسانية مستنيرة وحكيمة تُسهم في توجيه مجرى الأحداث لخير العالم بأكمله.
–
*المقالة استندت لمداخلة للكاتبة خلال حفل تدشين الكتاب في 8 مايو 2024م