ها أنا في مانشيستر احتفل بتخريج ابني من جامعة سالفورد العريقة، و لكن عندنا بدأت اتجول في شوارع مانشستر وسالفورد، شعرت وكأني داخل لوحة زيتية مرسومة بالضباب، مطر خفيف يلامس أطراف المعاطف، وعبق التاريخ يخرج من واجهات الطوب الأحمر ونوافذ القاعات الفنية القديمة، هاتان المدينتان الواقعتان شمال غرب إنجلترا، ليستا فقط قلب الثورة الصناعية، بل أيضاً نَبض من نَبضات الفن البريطاني، خاصة في مجالي الرسم والنحت.
أيضا تُعرف مدينة مانشستر البريطانية بلقب (مدينة النحل) بسبب رمز النحلة العاملة الذي يمثل روح العمل الجماعي والجد خلال الثورة الصناعية. اختيرت النحلة شعارًا للمدينة في القرن التاسع عشر، وانتشرت في شعارات الشوارع والمباني وحتى سيارات الشرطة. بعد هجوم 2017، أصبحت رمزًا للصمود والوحدة، يحملها السكان بفخر على الجدران والملابس والوشوم، كدلالة على انتمائهم واعتزازهم بتاريخ مدينتهم.
في مانشستر تجد معرض مانشستر للفنون Manchester Art Gallery، الذي تأسس عام 1823، وتُعرض فيه أعمال لعمالقة الفن مثل ويليام تيرنر وكونستابل، إلى جانب مجموعة ضخمة من فناني ما قبل الرفائيليين، لوحات تعكس تفاصيل الحياة الإنجليزية بعيون حالمة وألوان ضبابية، وكأنها مستوحاة من طقس المدينة ذاته.
أما النحت فتراه واضحا في الساحات العامة تماثيل لأبطال الثورة الصناعية، وأخرى لفنانين محليين تعكس روح المدينة التي تزاوج بين الصلابة والجمال.
أما سالفورد، فهي المدينة التي احتضنت الفنان الشهير ل. س. لوري (L. S. Lowry)الذي رسم ببساطة وتكرار مدهش مشاهد الحياة اليومية للطبقة العاملة؛ عمال المصانع، الأطفال في الأزقة، المدخنين في الحانات، يمكن لعشاقه زيارة معرض لواري (The Lowry)، الذي افتُتح عام 2000، ويضم أكبر مجموعة لأعماله، بما في ذلك لوحته الشهيرة “Going to the Match” التي بيعت مؤخراً بمبلغ قياسي.
المدينة أيضًا تتنفس موسيقى، من الروك إلى البريت بوب، مانشستر كانت مهدًا لفرق شهيرة مثل Oasis وThe Smiths، ولا تزال حتى اليوم تحتضن حفلات حية في مسارح شهيرة مثل The Bridgewater Hall، الذي يُعتبر موطنًا لأوركسترا هالّي العريقة.
أما المسرح، فله مكانته الراسخة من خلال مسرح Royal Exchange Theatre الذي يحتل مبنى مصرفيا قديما ويقدّم عروضا درامية عالمية في قاعة دائرية مبهرة.
وفيما تسير بمحاذاة قناة مانشستر الملاحية Manchester Ship Canal، تشعر كيف ساهم هذا الممر المائي في تحوّل المدينة إلى بوابة تجارية وثقافية. وعلى ضفافها، تُقام عروض فنية ومعارض صيفية.
وإذا زرت المدينة في شهر أغسطس، فاحرص على حضور كرنفال الكاريبي في مانشستر، أحد أقدم وأشهر الكرنفالات في بريطانيا. رقص، أزياء ملونة، موسيقى أفريقية وكاريبية، وأجواء تدفئ حتى أيام المطر.
في الشتاء، بينما يتجمع الناس في المقاهي تحت بطانيات رقيقة يحتسون الشاي الساخن، تجد الرسامين في الزوايا، يخطّون ملامح المدينة على دفاترهم، مستسلمين لجمالها، ولسحر بريطانيا البارد الذي يجعل حتى الفرشاة ترتعش حباً.