تقرير البحرين/المنامة/ في محاضرة نظمها النادي السوداني بالبحرين ألقت الفنانة التشكيلية د.منى الروبي محاضرة بعنوان (للفن سطوة: تأثير الفن على الفرد والمجتمع – البحرين والسودان نموذجًا)، بإدارة الدكتور نادر عبد الحميد، حيث انطلقت من سؤال جوهري حول ماهية الفن، لا بوصفه تقنية أو ترفًا، بل كحاجة إنسانية أصيلة للتعبير عن الذات، وتوثيق التجربة، وتشكيل الهوية. الفن، كما طرحته المحاضِرة، هو انعكاس للمشاعر والأفكار، وهو مرآة للثقافة، ووسيلة لفهم الذات والآخر، ولإعادة تشكيل العالم من حولنا.
استعرضت المحاضرة بدايات الفن في الكهوف، حيث جسّد الإنسان القديم حياته اليومية ورموزه الروحية على الجدران، في محاولة أولى لفهم العالم وترويضه بصريا، هذا التوثيق البدائي لم يكن مجرد زخرفة، بل إعلانًا عن حاجة الإنسان للتعبير، قبل اللغة، وقبل الدين، وقبل المؤسسات. ومن هذه البداية، انتقل السرد إلى تأمل فلسفي في غياب الفن، حيث يصبح المجتمع بلا إبداع مجرد فضاء رتيب، تغيب فيه الدهشة، ويختل فيه التوازن بين العقل والروح. الفن، في هذا السياق، ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية، تضمن للإنسان أن يبقى حيًا من الداخل.
ثم تناولت المحاضرة كيف أصبحت العلامات والرموز جزءًا من حياتنا اليومية، تحمل رسائل ثقافية واجتماعية، وتؤثر في سلوكنا دون أن ننتبه، مؤكدة أن الإشارات البصرية من إشارات المرور إلى شعارات الشركات، هي امتداد للفن في الحياة اليومية، وهي لغة تتسلل إلى اللاوعي، وتعيد تشكيله،وفي استكشافها للصوفية ربطت الروبي بين الطقوس الروحانية والفن الأدائي، حيث يصبح الرقص والموسيقى وسيلة للتعبير عن التجربة الداخلية، وتحقيق التوحد بين الجسد والروح، في لحظة فنية تتجاوز الزمان والمكان، وتعيد الإنسان إلى جوهره.
ناقشت المحاضرة أيضًا تأثير الدين على الفن، وكيف يمكن أن يكون الدين محفزًا للإبداع أو محددًا له، وفقًا للسياق الاجتماعي والروحي. الفن الديني يحمل رمزية عميقة، لكنه أيضًا يواجه تحديات في التعبير الحر، خاصة حين تتداخل السلطة الدينية مع السلطة الفنية. ومن صور الأحصنة إلى تماثيل القادة، استعرضت الروبي كيف استخدم الفن للتعبير عن القوة، وتوثيق الحروب، وتشكيل الذاكرة الجمعية. الرموز الفنية ليست محايدة، بل أدوات سياسية وثقافية، تحمل في طياتها سرديات السلطة والمقاومة.
في إشارة رمزية، تم تناول “جمل غردون” كتوثيق فني للاستعمار، حيث يصبح الحيوان رمزًا للهيمنة، واللوحة أداة للقراءة النقدية للتاريخ. وقدّمت المحاضرة نماذج عالمية لفن يحمل رسالة إنسانية، مثل صورة مجاعة أفريقيا، وصورة مقتل محمد الدرة، وأغاني مثل “نحن العالم” لمايكل جاكسون، و”الحلم العربي”، التي جسدت الفن كأداة للتوعية، والتضامن، ورفع الصوت الإنساني في وجه المعاناة.
الفن، كما طرحته الروبي، كان دائمًا في طليعة التغيير، من الجداريات إلى الأغاني، حيث يصبح وسيلة لتحفيز الشعوب، وتوثيق لحظات التحول، ومقاومة للسلطة. والسينما، ليست مجرد تسلية، بل أداة لتشكيل القيم، وإعادة تعريف المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية، خاصة في المجتمعات النامية. ومن لوحات الحرب إلى الأفلام الوثائقية، لعب الفن دورًا في نقل المعاناة، وتوثيق الأحداث، وتشكيل سردية إنسانية تتجاوز الأرقام والبيانات.
واختتمت المحاضرة بالتأكيد على أن الفن يعكس هوية الأمة، ويصبح رمزًا للفخر والانتماء، من الأزياء إلى الأغاني الوطنية، ومن الجداريات إلى المعمار. الحضور تفاعل مع الطرح بعمق، وفتح نقاشًا حول دور الفن في بناء الجسور بين الثقافات، وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة بين البحرين والسودان، في لحظة تأملية جمعت بين التاريخ والروح، وبين الجمال والمعنى.