الرئيسية / أخبار / هتلر و البارود الملون..!..بقلم منى الروبي

هتلر و البارود الملون..!..بقلم منى الروبي

هل اللوحة كائناً حيًا؟ أم أنها مجرد تمرين بصري على الأشكال والألوان؟ هل يمكن للوحة أن تُبكينا، أو تُشعرنا بالدفء، أو تُخبرنا بشيء لا تستطيع الكلمات أن تقوله؟ في قلب هذا السؤال يقف مثال صارخ، لا يُنسى، يجسده الشاب الذي كاد أن يكون فنانًا، قبل أن يصبح أحد أكثر الشخصيات دموية في التاريخ: أدولف هتلر.

ولد هتلر في عام 1889 في بلدة بروناو آم إن النمساوية، وكان منذ صغره يميل إلى العزلة، متأملاً في التفاصيل، متوتر العلاقة مع والده القاسي، ومتعلّقًا بأمه الحنونة التي توفيت في عام 1907. كانت وفاتها صدمة عظيمة له، ورافقتها في الوقت نفسه صدمة أخرى: رفضه للمرة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا. حين عرض لوحاته، قالت اللجنة إنها “تفتقر إلى الحيوية، وإن مهاراته في الرسم الحرّ ضعيفة”. المثير أنهم نصحوه بالتوجه إلى الهندسة المعمارية، لما لمسوه من دقة في رسم المباني. لكنه لم يكن مهندسًا. كان يحلم أن يكون فنانًا عظيمًا.

فيينا.. في أوائل القرن العشرين، كانت تموج بالحداثة، والانفتاح، والفن التعبيري، حيث صعد نجم غوستاف كليمت وإيغون شيلي، وتمرد الفنانون على الكلاسيكيات الباردة. لكن هتلر، بعكس التيار، تمسّك بالتراث الأكاديمي، راسمًا بنايات ونوافذ خالية من الحياة. لم يرسم مشهدًا إنسانيًا واحدًا يحمل عاطفة أو قصة. كانت ألوانه باهتة، خطوطه دقيقة إلى حد التكلّف، ولوحاته بلا روح. كأن الفن عنده لم يكن إلا وسيلة للنجاة من الفقر، لا أداة للتعبير عن الذات، وقد عاش بعدها حياة هامشية كبائع بطاقات بريدية ملوّنة للوحات يرسمها ليلاً ويبيعها نهارًا على الأرصفة، هذه المرحلة من حياته، 1909–1913، كانت شديدة البؤس، حيث نام أحيانًا في ملاجئ، وكتب في مذكراته أنه شعر بالضياع والمهانة.

بالمقارنة بنفس الفترة، كان الفنان النرويجي إدفارت مونك يرسم لوحته الشهيرة “الصرخة” (1893)، المليئة بالهلع والاغتراب، كانت ضربات فرشاته تشبه ارتجاف الروح، بينما هتلر ظل محصورًا داخل مستطيلات النوافذ وزوايا الشوارع. مونك صرخ، وهتلر صمت.

لكن هل لوحاته تفضحه؟ بلا شك، كانت هناك إشارات مبكرة إلى انعدام العاطفة، إلى البرود، إلى الانفصال عن البشر. يقول البعض إن اللوحات لم تكن فقط باردة، بل مخيفة في سكونها. مدن بلا سكان، حدائق بلا أطفال، جدران بلا حياة. حتى حين رسم المناظر الطبيعية، كانت السحب رمادية والشمس غائبة. وكأن الأمل محذوف عمدًا من كل تكوين بصري.

ويُلاحظ في تحليل شخصيته الفنية أن هتلر لم يكن مهتمًا بالابتكار، بل بالسيطرة، حتى على المساحات الفنية. أراد للخط أن يكون مضبوطًا، وللشكل أن يكون تحت سلطته، لا أن ينفلت منه. هذه النزعة للسيطرة التامة، والتحكم في التفاصيل، انسحبت لاحقًا على فكره السياسي. أراد أن يصنع عالمًا “منظمًا” وفق رؤيته، بلا عشوائية، بلا “اختلاف”، بلا فن حديث، بلا عرق آخر. رفضه المبكر من قِبل نخبة فنية ربما ساهم في ولادة نقمته على “النخبة” بكل أشكالها.

وحين أصبح زعيمًا، كانت له رؤية فنية قمعية، فاعتبر الفن التعبيري والحديث “فنًا منحطًا”، وأمر بحرق أعمالٍ لكاندينسكي وبول كلي وشاغال وغيرهم، أنشأ معارض تُعرض فيها هذه الأعمال بسخرية لإهانة أصحابها، في حين دعم نوعًا واحدًا من الفن الواقعي المُجمد، الذي يُمجد الجسد الآري والمزارع والجنود. بمعنى آخر: أراد أن يُبقي الفن وسيلة للدعاية، لا للحقيقة.

وهنا تُطرح المفارقة الكبرى: لو أن لجنة الفنون قبلت فتى فيينا، لو أن أحدهم آمن به كفنان، لا كفاشل، هل كنا لنشهد نفس التاريخ؟ من المؤلم أن مصير قارة بأكملها ربما تغيّر بسبب رفض لوحات باردة. وربما كان من الواجب أن تُقال له كلمة بسيطة: “ارسم ما تشعر، لا ما يُطلب منك.”

الفن الحقيقي لا يُخلق باليد فقط، بل من جُرحٍ مفتوح، من فقد، من نشوة، من اشتياق، ومن لا يحمل كل ذلك في داخله، لن يرسم إلا صمتا مطليا على قماش.. وهذا ما فعله هتلر.