أما موضوع الكتاب فكان عملًا إنسانيًّا قد لا يتكرر كثيرًا في عالمنا الرقمي الصعب، هو قُبلة على جبين البشرية لكي ترتاح من تعب السنين، وهو مخطوط بثلاثة أجنحة تحمل رحلة ابنته مريم من عالم الصمت إلى عالم الكلام، إنه الاكتشاف المُر لأب يوقن فجأة أن ابنته لا تسمع، نعم لم تكن تسمع، تغلب الأب فؤاد على هول الصدمة، امتصها مثلما يمتص أي جبل زلزالًا مدويًّا يشق الأرض ويبتلع مَن عليها، جفف دموعه ثم جلس مع أقرب الأصدقاء البروفيسور الحواج كي يفكر، ما الذي يا ترى يمكن أن نفعله لابنتنا مريم كي نخرج بها من دنيا الظلمات إلى النور، هل للطب رأي آخر، هل لمنطقتنا العربية كلام غير ذلك الذي استمع إليه الصديقان في المهد وكان محبطًا لأقصى حد؟
لم يستسلم البروفيسور فؤاد، ولم يهدأ بال رفيق دربه البروفيسور الحواج، كانا يخططان للذهاب حتى إلى نهاية العالم كي ينقذا الابنة مريم، ولكي يخرجا بها سالمة من هذا الاختبار الوجودي الصعب.
بعد جهد جهيد، توصل الأب وصديقه إلى طبيب يحمل من الخبرة والتجربة وحالات مشابهة تم علاجها، وبالفعل سار الصديقان على هدى الطب، محمولين على سلطانه، مؤمنين بمشيئة الله وقضائه وقدره، وبالفعل كان العلاج فعالًا، وإرادة الرب فوق إرادة كل من حاول إحباط التجربة الإنسانية الفريدة.
عادت مريم من المجهول إلى يقين الحياة الحلوة، تعلمت وأنهت دراستها الجامعية وعملت في أكبر المصارف البحرينية، وشاركت في العمل الخيري كسيدة فاضلة من سيدات المجتمع البحريني العريق، تزوجت وأصبحت أُمًّا، وقرر الصديقان إصدار كتاب يحمل عنوان رحلة الكفاح يحكي أيام الصبر على المعاناة، والدفاع عن حق مريم في الحياة، نجح الصديقان وأصبح الكتاب الذي يتداوله الناس في المنطقة بمثابة قصة عشق لا تنتهي من أب لابنته، ومن صديق لصديقه، ومن عالم الصمت إلى عالم الكلام.
هكذا كانت أمسية نقابة الصحفيين مساء أمس الأول مليئة بالشجن أكثر من المدعوين مثلنا، وكنت رغم اقترابي من التجربة ومتابعتي تدشين النسخة الثالثة من “حبيبتي ابنتي سميتها مريم” أتابع الحدث من المنامة لحظة بلحظة، وساعة بساعة، حتى اهتديت إلى الصديق الدكتور فؤاد شهاب لأحدثه عما حدث، وأحاوره من قلب طبعته الثالثة للكتاب الأيقوني الفريد، فإذا به يرد عليّ بكلماته التي تقدم بها مؤلفه الذي قالت عنه الصحافة في القاهرة “حين يصبح الكتاب ابنة أخرى”.
د. فؤاد شهاب يكتب: “قد يقال إن الحب في جوهره عاطفة إنسانية عامة، لكن للأبوة مذاق مختلف، خاص، وسر لا يُدرك إلا حين يجد الرجل نفسه أبًا. عندها يكتشف أن قلبه الذي كان يظنه له وحده، صار يسكنه آخرون لا يغيبون لحظة عن وجدانه، وأن نبضه بات يتسارع مع كل ابتسامة أو دمعة لطفل صغير يحمل اسمه وملامحه وآماله.
حبّ الأبوة ليس مجرد عاطفة تفيض بالحنان، بل هو مزيج من الحماية والاحتواء والتضحية. هو تلك القوة التي تدفع الأب إلى السهر وهو منهك، وإلى العمل وهو مرهق، وإلى الصبر وهو يواجه أعتى صعوبات الحياة، لا لشيء إلا لأن خلفه عيونًا بريئة تنتظر، وقلوبًا صغيرة تتوكأ عليه وكأنه جبل لا يهتز.
لكن الأبوة أيضًا فنّ عاطفي رقيق، يظهر في التفاصيل الصغيرة.. قبلة على جبين ابنة قبل النوم، كلمة دعم ترفع معنويات ابن في لحظة انكسار، أو حتى صمت طويل يخبئ في داخله خوفًا وقلقًا، لكنه لا يخرج إلا في صورة ابتسامة مطمئنة. الأبوة في جوهرها هي أن تحمل العالم على كتفيك وتظل مبتسمًا، كأنك تقول لأبنائك: “ما دمتم أنتم بخير، فلا خوف عليّ ولا منّي”.
ولعل كتاب “حبيبتي ابنتي سميتها مريم” لم يكن مجرد تجربة كتابية أو أدبية، بل كان صورة من صور هذا الحب الأبوي وهو يتجلّى في كلمات. هو شهادة مكتوبة على رحلة عاطفية وإنسانية، تختصر كيف تتحوّل الأبوة إلى مشروع وجداني ومعنوي يتجاوز حدود الأسرة ليطول الإنسانية كلها.
اليوم، ونحن ندشّن الطبعة الثالثة من هذا الكتاب، ندشّن في الحقيقة مرحلة جديدة من الحوار مع القرّاء حول معنى الأبوة، ومعنى أن نمنح أبناءنا مكانهم الطبيعي في القلب والوجدان. الطبعات ليست مجرد أرقام، بل هي شواهد على أن التجربة لامست قلوبًا أخرى، وأيقظت فيها أحاسيس تشبه ما نحمله نحن تجاه أبنائنا.
الأبوة، إذًا، ليست فصلًا عابرًا في حياة الإنسان، بل هي كتاب مستمر لا تُقفل صفحاته. وكل طبعة جديدة من هذا الكتاب ليست إلا تذكيرًا بأن الحب الأبوي، مثل الكتب العظيمة، لا ينتهي ولا يُستنفد، بل يتجدّد وتعاد قراءته بعمق أكبر في كل مرة”.
وكل طبعة يا صديقي وأنت طيب.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية
عن صحيفة (البلاد) البحرينية