مجالسنا الرمضانية جزء من تراثنا الوطني، قطعة أرض جذورها في أعماق التاريخ، وفرعها في السماء، هي تلك التجمعات الإنسانية التي تحرص البلاد والعباد على إقامة مناسكها، والالتزام بتعاليمها ونظامها الدقيق، فهناك مجالس يومية، وأخرى أسبوعية، من الإنسان البسيط، حتى المسؤول الكبير، والقائد الملهم، هي عادات تكتسب روحانيتها من خصوصيتها، وتجذب الناس من كل حدب وصوب من دون عوائق وشكليات وترتيب مسبق.
المهم أن تصفى القلوب، وتصدق النوايا، وتؤمن النفوس بأن أمتنا الإنسانية هي أمة خير ومحبة وتعايش وتسامح وسلام، هو ما كان متجليًّا في المجلس الأخير الذي شاءت محاسن الصدف أن أشارك فيه، الحاضرون كانوا يمثلون بلادهم قبل أنفسهم، سفراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا وأعضاء السلك الدبلوماسي في سفارات بنغلاديش وباكستان والولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين، إلى جانب عدد من أعضاء مجلس النواب في مقدمتهم النائب المخضرم د. حسن عيد بوخماس، كون الداعية لهذا المجلس الرمضاني النائب الدكتورة مريم الظاعن التي أشاعت جوًّا من الود والانسجام ما بين مجتمع مجلسها العامر بإذن الله، والذي زادته بهاء والدتها الشاعرة السيدة الفاضلة نادية الموسوي، إلى جانب عدد من الأكاديميين بينهم الدكتورة فاطمة الظاعن أيقونة الجامعة الأهلية وأستاذة إدارة الأعمال.
كانت اللقاءات على المستوى الإنساني رائعة جامعة لهؤلاء النخب في تلك المناسبة الرمضانية السعيدة.
المدهش حقًّا والغريب أن المصورين الصحافيين كانوا منتبهين لأهمية هذه المجالس، فقد بادروا بالتقاط الصور التذكارية للحضور توثيقًا للحدث، وتأكيدًا على أهميته، تمامًا مثلما كانت المناقشات الودية مفعمة بجو إنساني بديع، وحالة وجودية تتسم بالتألق والخلق الرفيع.
حتى أحاديثي الشخصية مع سفراء الدول المؤثرة في الإقليم كانت مرتبطة بالإنسان والتاريخ والجغرافيا ـ أكثر من ارتباطها بأحداث الساعة المؤلمة في فلسطين المحتلة، خصوصًا قطاع غزة الذي اختطفته يد العدوان والتطهير العرقي والإنساني المقيت.
لم نتحدث عن آلام أهل غزة، ولا عن عدوان إسرائيل الغاشم، لأن الكلام لم يعد يجدي نفعًا، وأن لغة التخاطب مع المجتمع الدولي يجب أن تسقط منها حروف خيبة الأمل المسماة “على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته”، جملة غير مفيدة، وكلام يثير الاستهجان، كوننا أمة معنية بالشأن الفلسطيني أكثر من غيرها، لم نتحمل حتى اللحظة مسؤولياتنا، بل تركنا الفريسة كلقمة سائغة يلوكها العدو كلما أراد، ويمضغها ويطحنها ويهضمها حتى النهاية.
هذه هي فلسطين التي أراها بعد ضياع، لم تعد الحرب تجدي ولا السلام يفيد، ولا اللا سلم واللا حرب يؤتي أكله، لذلك لم أفتح حوارًا مع سفراء مهمين حول قضيتنا المحورية، ولم يذهب خيالي بعيدًا لألتقط أكثر من الصور التذكارية.
ربما لو أثرت القضية لكانوا قد أكدوا مواقف بلادهم “نحن ضد العنف في غزة” وكأن ما يحدث في غزة مجرد عنف بين طرفين متكافئين، وكأن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وقتل الأطفال والنساء، مجرد عنف ليس إلا.
لذلك ذهبت إلى نهاية الطريق ملقيًا السلام على الجميع بعد حوار إنساني بحت مع الجميع، وبعد شجن وجودي لإيقاظ الذكريات من نومها، وموت الحياة من سباتها العميق، حاولت أن أشرح للسفراء طبيعة شعبنا العربي، عاداته وتقاليده، أكلاته الرمضانية والشعبية، وكيف أنها نتاج حضاري عريق وليست مستنسخة من أية حضارة أخرى.
هل نجحت؟ ربما، لكن الأكيد أن الرسالة وصلت، وأن الأثر سيظل مجرد أثر، طالما أننا لم نتحرك كمجموعة عربية ضد العدوان، ليس لإزالة آثاره، والبدء في إعادة الإعمار، إنما لحماية شعبنا من التهجير القسري، والإبادة الإجرامية الجماعية، والتطهير العرقي المتعمد، وكل عام ومجالسنا الرمضانية بألف خير.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية