لا يمكن لمن يريد الحديث والإبحار في تاريخ الكويت الفني، ولا سيما تاريخ الأعمال التلفزيونية الجميلة التي أنتجتها في عهدها الذهبي وزمن تألقها في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، إلا أن يقف إجلالاً واحترامًا لمخرج الجل الأعظم من تلك الروائع التي ما زالت محفورة في وجدان المشاهد الخليجي والعربي، ولم تبهت أو يطويها النسيان مع تقادم الزمن.
هذا المخرج، الذي نحاول هنا سرد جوانب من حياته ومسيرته وتسليط الضوء على مجمل أعماله الخالدة وإعادة الاعتبار إليه بعد أن ظُلم إعلاميا بشكل كبير، هو المخرج المصري القدير حمدي فريد الذي عاش ردحا من الزمن في الكويت واندمج في حياتها الاجتماعية وارتبط بعلاقات ودّ واحترام وثقة مع رموزها الفنية، وكان سببًا مباشرًا في ريادتها دراميًا على المستوى الخليجي.
والمعروف أن دولة الكويت، في اعقاب استقلالها الناجز سنة 1961، قررت أن تنهض على مختلف المستويات وفي كافة المجالات، وأن تستثمر، بصفة خاصة، في المجالات التربوية والثقافية والإعلامية والموسيقية والمسرحية وما شابهها من تلك التي تندرج تحت «القوة الناعمة». ولتحقيق ذلك استعانت بالخبرات العربية، ولا سيما من مصر، كونها الدولة العربية الرائدة في هذه الميادين. ونجد تجليات ذلك في قيام الكويت بالاستعانة بالمخرج والمسرحي المصري الكبير زكي طليمات للارتقاء بالحركة المسرحية وفق خطط علمية مدروسة، واستعانتها بالموسيقار المصري نجيب رزق الله في تأسيس فرقة الإذاعة الموسيقية، واسنادها مهمة تأسيس جامعة الكويت في عام 1966 إلى فريق عمل برئاسة الدكتور عبدالفتاح اسماعيل وكيل وزارة التربية والتعليم بمصر وقتذاك. وكانت قد استعانت قبل كل هؤلاء بالفقيه الدستوري المصري عثمان خليل عثمان في كتابة دستور الدولة.
وكان ضمن من استعانت بهم أيضا، في حقبة ما بعد الإستقلال، من أجل ايجاد موقع متين لها على خريطة انتاج الأعمال الدرامية التلفزيونية الأستاذ حمدي فريد الذي كان يعمل آنذاك في التلفزيون المصري الناشيء كمخرج. وهكذا حلّ الرجل في الكويت في مطلع الستينات معارا من التلفزيون المصري بطلب من وزارة الإرشاد والأنباء (الإعلام لاحقا)، في وقت كان فيه التلفزيون الكويتي مجرد جهاز بسيط يتلمس خطاه ويحاول جاهدا أن يعزز موقعه كأول محطة تلفزيونية حكومية في منطقة الخليج العربي، بل حل حمدي فريد في الكويت وهو لا يعرفها ولا يعرف ظروفها وليس بها أحد من معارفه، لكنه استطاع سريعا أن يتأقلم مع أجوائها ويتماهى مع أوضاعها المعيشية والإجتماعية والمناخية بفضل ما كان يتمتع به من صبر وطموح واستعداد لخلق شيء من العدم يخلد به اسمه ويجعله موضع تقدير عند من استعانوا به وراهنوا عليه.
وُلد حمدي بهيج فريد حمدي الشهير بحمدي فريد في 12 يناير عام 1916 بمدينة الإسكندرية ونشأ ودرس بها قبل أن يغادرها إلى القاهرة للعمل في التلفزيون الرسمي المصري بُعيد إطلاق إرساله في 21 يوليو عام 1960. غير أنه لم يطل به المقام هناك، إذ سرعان ما تمت إعارته لدولة الكويت كما أسلفنا.
بدأ عمله في الكويت مخرجا في زمن لم يكن هناك في الكويت مخرجون سوى كاظم القلاف (1945 – 2000) وفيصل الضاحي، وعمل في حقبة لم تكن فيها الأدوات الإخراجية تساعد المخرج على الإبداع، لكنه أبدع واخرج اعمال اسطورية عظيمة لأن الطموحات والهمم كانت عالية والنفوس صافية وروح الفريق الواحد مسيطرة في تلك الفترة.
كانت اولى تجاربه الاخراجية في عام 1964 حينما أخرج مسلسلا كوميديا من 13 حلقة من تأليف عبدالحسين عبدالرضا بعنوان «مذكرات بوعليوي»، شارك فيه الفنانون عبدالحسين عبدالرضا وعبدالعزيز النمش ومحمد جابر وخالد النفيسي وصالح حمد (مبريك)، والفنانات مريم الصالح وزينب الضاحي وعائشة إبراهيم، علما بأن هذا العمل، وهو الأول في تاريخ التلفزيون الكويتي، كان قد بث كمسلسل إذاعي في بداية الستينيات.
تلا ذلك، وتحديدا في عام 1967، قيامه بكتابة قصة المسلسل الكوميدي الدرامي «القلب الكبير» وإخراجه بمساعدة فيصل الضاحي، حيث تمكن ببراعة من إدارة الحشد الكبير من أبطال المسلسل وهم عبدالحسين عبدالرضا وخالد النفيسي ومحمد جابر وغانم الصالح وابراهيم الصلال وعلي البريكي وسالم الفقعان وعايشة ابراهيم وحسين الصالح وسعاد عبدالله وصالح حمد وكاظم القلاف.
وعلى العكس من عقد الستينات، التي لم يقدم فيها أعمالا كثيرة ربما بسبب ندرة النصوص الجيدة أو ربما بسبب تواضع إمكانيات تلفزيون الكويت آنذاك، فقد شهد عقد السبعينات طفرة في الدراما الكويتية بدليل انتاج أكثر من عشرين مسلسلا شارك فيها عمالقة المسرح الكويتي، بينما كان مخرجها واحد هو حمدي فريد الذي نجح في أن يكون مخرجا متلونا بحسب النص الموجود أمامه وأثبت قدرة فائقة لجهة وضع كل فنان (وكل فنانة) في الزاوية التي يبدع فيها.
بدأ حمدي فريد نشاطه في السبعينيات بإخراج المسلسل الكوميدي «أجلح وأملح» سنة 1970 من تأليف وتمثيل عبدالحسين عبدالرضا، بمشاركة كل من: محمد المنصور، محمد جابر، علي المفيدي، صالح حمد، عائشة إبراهيم، إبراهيم الصلال، عبدالعزيز النمش، مريم الغضبان، أحمد الصالح، وأحمد مساعد. ويقال إن مخرجنا أراد أن ينقل عمله هذا من النطاق الكويتي والخليجي إلى النطاق العربي فأشرك فيه ثلاثة من نجوم بلده وهم: خيرية أحمد وآمال رمزي ولطفي عبدالحميد.
بعد ذلك أخرج في الأعوام 1971 و1972 و1974 الأجزاء الثلاثة على التوالي من المسلسل التراثي «الشاطر حسن»، الذي يعد أول عمل ينتجه تلفزيون الكويت بالألوان. وفي عام 1975 أقدم على إخراج المسلسل الدرامي «ابن الحطاب» من تأليف علي المفيدي وتمثيله بمشاركة إبراهيم الصلال وحياة الفهد وحسين الصالح ومريم الغضبان وهيفاء عادل وكاظم القلاف ومحمد السريع وحسين المفيدي. وقد أغراه نجاح هذا العمل، فأقدم في العام التالي على تكرار التجربة من خلال قيامه بإخراج مسلسل تراثي تدور أحداثه في قالب من التشويق والإثارة هو مسلسل «ابن العطار» من تأليف علي المفيدي وتمثيله إلى جانب كل من: إبراهيم الصلال، حسن المفيدي، محمد السريع، استقلال أحمد، محمد المنيع، باسمة حمادة، فوزية المشعل، وعلي البريكي.
ثم جاءت معجزته الإخراجية التي صارت حديث الناس داخل الكويت وخارجها لسنوات طويلة وإلى وقتنا الحاضر، مجسدة في المسلسل الكوميدي الأشهر «درب الزلق» الذي انتجه تلفزيون الكويت سنة 1977 وعرضه أغلب محطات التلفزيون العربية، وهو من تأليف عبدالأمير التركي وتمثيل عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج وخالد النفيسي وعلي المفيدي وعبدالعزيز النمش وسمير القلاف وفوزية المشعل وحسين المفيدي وخليل اسماعيل وماجد سلطان، استقلال أحمد، طارق منصور، ولمياء خطاب، بمشاركة الفنانين المصريين لطفي عبدالحميد وفؤاد راتب.
راح حمدي فريد، بعد ذلك يبني فوق النجاح الذي حققه من وراء «درب الزلق»، فاستعان به مسرح السلام في الكويت في عام 1978 لإخراج المسلسل التراثي «حبابة» الذي أقتبس المؤلف عبدالرحمن الصالح قصته من رواية «ألف ليلة وليلة» وقامت بتمثيله مريم الغضبان وهدى حسين وحياة الفهد وهيفاء عادل بمشاركة محمد المنصور ومنصور المنصور وابراهيم الحربي وأحمد الصالح والفنان البحريني قحطان القحطاني. وفي العام التالي (1979) أخرج المسلسل التراثي الكوميدي «مذكرات جحا» من تأليف حمدي عبدالمقصود وتمثيل إبراهيم الصلال وعبدالله الحبيل وطيبة الفرج ومحمد السريع وصالح حمد وكاظم القلاف ومحمد جابر وعبدالرحمن العقل وابراهيم الحربي.
وبحلول عقد الثمانينات، حدث المنعطف الأبرز في مسيرة مخرجنا، بلقائه مع كاتب الدراما والسيناريست الفلسطيني المقيم بالكويت طارق أحمد عثمان، حيث شكلا ثنائيا فنيا لتقديم أمتع الأعمال، إلى درجة أنه قيل:»عندما يجتمع العملاقان المخرج حمدي فريد والكاتب طارق عثمان فاعلم أن هناك عملا ومسلسلا عظيما يستحق المشاهدة». وأحمد عثمان هذا ولد بفلسطين عام 1946 ورافق جده وعمه إلى الكويت وهو صبي مراهق، فنشأ وأنهى دراسته الثانوية بها ثم توجه إلى مصر لدراسة الهندسة. وفي أوائل السبعينات عاد إليها برفقة زوجته وابنته، فعمل معيدا في كلية العلوم والتكنولوجيا بجامعة الكويت، إلى جانب إدارته لشركته الخاصة العاملة في مجال استيراد وتصدير وبيع الأجهزة الكهربائية وأجهزة الكمبيوتر. وفي الوقت نفسه مارس هوايته الأدبية التي عاشت معه منذ أيام طفولته المبكرة، فكتب الشعر والأغاني باللغة الفصيحة واللهجة المصرية، ثم اتجه إلى كتابة الدراما التلفزيونية. ومنذ عام 1975 صار أحد أبرز الأسماء في ميدان الدراما الكويتية والخليجية، بل أحد الذين يعود لهم الفضل في تطوير هذه الدراما ونشرها عربيا، من خلال المسلسلات الكثيرة التي تحمل اسمه وتوقيعه. وبعد الاجتياح العراقي للكويت سنة 1990 غادر الكويت مع أسرته إلى مصر، وهناك أصيب بمرض في الصفائح الدموية، وتوفي في احدى المستشفيات عام 2004، ودفن في مصر.
أول ثمرة من ثمار تعاون حمدي فريد وطارق عثمان كان المسلسل التربوي العائلي «إلى أبي وأمي مع التحية» من بطولة خالد النفيسي وحياة الفهد وعبدالرحمن العقل وهدى حسين واسمهان توفيق وسحر حسين ومنصور المنصور وبدر المسباح، والذي عرضت أجزاؤه الثلاثة في الأعوام 1980، و1981، و1982 على التوالي.
ثم توالت ثمار تعاونهما، فكان ظهور المسلسلات التالية تباعا: «خرج ولم يعد» (1982)، «خالتي قماشة» (1983)، «كامل الأوصاف» (1984)، وهو مسلسل حمل أيضا إسم «الغرباء»، «إليكم مع التحية» (1986) الذي تم تصويره في ستوديوهات عجمان.
إلى ما سبق شهدت الثمانينات أيضا أعمالا أخرى لحمدي فريد خارج إطار تعاونه مع الكاتب طارق عثمان. حيث أخرج في عام 1981 مسلسل «أبله منيرة» من تأليف وحيد حامد، وسباعية «زوجه بالكمبيوتر» سنة 1985 من تأليف صلاح المعداوي، كما أخرج في عام 1983 مسلسل «فتى الأحلام» من تأليف حسين عبدالنبي، وهو مسلسل شارك فيه مخرجنا كممثل في مشهد يتيم بدور ممرض مصري يدعى حمدي.
في عام 1986 انتهت مدة إعارة مخرجنا، فغادر البلد الذي عاش فيه سنوات من حياته وحقق في ستوديوهاته ووسط نجومه شهرته ومجده، عائدا إلى بلاده دون تكريم من أي جهة رسمية. ووجدت في صحيفة «الرأي» الكويتية من يتحدث عن ذلك بمراراة، وهو المصور التلفزيوني الكويتي حسن عبدالله العلي الذي زامل حمدي فريد في أعمال عديدة. يقول العلي ما مفاده أنه حينما علم بأن مخرجنا سيغادر إلى بلده ولن يعود، وأن الجهات الرسمية غافلة عن تكريمه، قام شخصيا بجمع مبالغ مالية من الفنيين والممثلين ليحجز بها إحدى صالات الفنادق من أجل حفل تكريم خاص لحمدي فريد. ويضيف العلي أنه رأى الدموع تنهمر من عيني المخرج وهو يتسلم درع التكريم وسط تصفيق الحضور واشادتهم به.
غير أن حمدي فريد أستدعي مجددا إلى الكويت في عام 1987 لإخراج المسلسل الكوميدي «على الدنيا السلام» من تأليف طارق عثمان وبطولة سعاد عبدالله وحياة الفهد وعلي المفيدي ومريم الغضبان وسمير القلاف وداوود حسين، فأبدع كعادته في إخراج هذا المسلسل الذي يعد آخر أعماله، حيث أنه عاد إلى مصر بعد إتمامه ليتوفى بالقاهرة في 6 يونيو 1987، دون أن يشاهده، ودون أن يعاصر مآسي الكويت الناجمة عن غزو القوات العراقية التي قامت بتدمير تراث الكويت الفني. وهكذا قال حمدي فريد «على الدنيا السلام» ورحل، تاركا ذكرى عطرة لدى رفاقه ومحبيه.
فهذا الفنان الكبير عبدالحسين عبدالرضا يقول عنه في حوار مع موقع «بحر الحب» (بتصرف): حمدي فريد ظُلم اعلاميا بشكل كبير، ومن العيب من تلفزيون الكويت ووزارة الإعلام عدم التكفل بتكريم هذا الجهبذ، فهو من سطر ابداعات طارق عثمان، وهو من اظهر العمالقة وجعلهم يبدعون ويظهرون كل ما عندهم. ويكفيه إخراج أعمال اسطورية لا تنسى وما زالت تعد الأفضل مثل «خالتي قماشة» و«درب الزلق». حمدي فريد ظهر في زمن صعب ومع ذلك أبدع وأخرج أعمالا أسطورية عظيمة. للأسف كانوا دائما ما يظلمون من هم خلف الكاميرا وخلف ستارة المسرح امثال حمدي فريد وزكي الطليمات.
وهذا المبدع العظيم خالد النفيسي يتحدث عنه في أحد حواراته التلفزيونية قائلا (بتصرف): إننا كفنانين كنا نحبه وهو يحبنا ونتعامل مع بعضنا البعض دون تكلف. وذات مرة اشترى سيارة جديدة وشاهدته اثناء خروجه من محطة التلفزيون، وهو يقود السيارة بسرعة جنونية. فسألته عن سبب سرعته، فعرفت منه أن شرطي مرور يلاحقه وهو خائف لأنه لا يحمل رخصة قيادة، فاقترحت عليه أن يختبيء وراء أعمال الديكور وطمأنه بأنني سأتصرف مع الشرطي. لكن النفيسي المعروف بمقالبه قاد الشرطي إلى مكان اختبائه وهو يضحك قائلا: «هذا هو المطلوب القبض عليه يا حضرة الشرطي».
أما الفنان القدير محمد جابر، الذي كانت له مع المخرج تجربة على مدى 10 سنوات في كتابة مجموعة سهرات «زوجتي» التلفزيونية، مثل: «زوجتي والسيارة» و«زوجتي والصيف»، و«زوجتي وأختها» و«زوجتي والسوق»، و«زوجتي والمجنون» و«زوجتي وخطيبتي»، و«زوجتي والكلب» و«زوجتي وأمها»، من تمثيله مع عبدالعزيز النمش، فقد أخبرنا في برنامج (وراء الكواليس) قائلا: «عملت معه عدة اعمال الى ان قدمت شخصية العيدروسي، فاستلمني حمدي فريد وقال: لن أدعك تترك شخصية العيدروسي».