في قلب أسطورة فرنسية قديمة، تلتقي الحقيقة والكذب عند بئرٍ عميق، ليختارا الاستحمام معا يخلعان ثيابهما وينزلان إلى المياه، لكن الكذب يسرق رداء الحقيقة بعد خروجه أولا، ليرتديها ويمضي مُتنكرا بين البشر، أما الحقيقة، فتُفضّل البقاء عارية في ظلمات البئر على أن تلبس ثياب الخداع.
هذه القصة لم تكن مجرد حكاية للفنان جان ليون جيروم، الذي ولد عام 1824 و تتلمذ على يد بول دولاروش كانت القصة شرارة أضاءت لوحته الأكثر إثارة: (الحقيقة تخرج من البئر) كاشفة جراح مجتمعٍ غارقٍ في الوهم.
عام 1896، كانت فرنسا تعيش على صفيح ساخن، فضائح السياسة، مثل قضية درايفوس اليهودي، مزّقت النسيج الاجتماعي، بينما هزت الحداثة الفنية أركان الأكاديمية التقليدية. في هذا المناخ وقف جيروم ــ آخر فرسان المدرسة الكلاسيكية ــ أمام مرسمه، ليحول الأسطورة إلى لوحة تنبض بالغضب الصامت، رسم امرأة تخرج من بئر حجرية بيد تحمل سوطا، وعينين تشعان بتحدّ، وجسد عار يختزل قوة لم تُهزم رغم القرون.
لم تكن تفاصيل اللوحة اعتباطية؛ فالضوء القاسي الذي يغمر الحقيقة بينما تُحاط بالظلام، يُذكرنا بصراعات عصر النهضة بين النور والظلام، لكن جيروم هنا لا يروي حكاية ماضٍ، بل يصوغ صرخة ضد حاضر مُزيف، ففي زمن انتشرت فيه الأكاذيب كالنار في الهشيم ـ أصبح السؤال: مَن يجرؤ على انتشال الحقيقة من قاع البئر؟ .
النقاد انقسموا أمام اللوحة عند عرضها، البعض رأى فيها استعارة مبتذلة، وآخرون انحنوا لجرأتها، لكن جيروم الذي عُرف بلوحات الشرق الساحرة مثل (الحمام التركي) لم يكن ليهتم، هو ابن زمنٍ مضى يشهد بمرارة على تحوّل الفن من دقة الخطوط الكلاسيكية إلى ضبابية الانطباعية، فخلّد رفضه بلوحةٍ تُجسّد الحقيقة كمحاربةٍ لا تُهزم.
اليوم، بينما تُقدّر اللوحة بالملايين تبقى رسالتها عصية على التقادم: الحقيقة قد تُجلد وتُحاصر، لكنها تخرج دائما من عتمة البئر عارية وقاهرة، لتُذكرنا أن الكذب ــ مهما ارتدى أثواب البهرجة ــ لن ينتصر إلا حين نختار أن نعمي البصائر.