قبل عامين، وفي شهر رمضان المبارك، أصدرت دارة الأنصاري للفكر والثقافة كتاب توثيقي بعنوان (سلسلة أحاديث في الوعي الوطني) لحفظ وتجميع عدد من المقالات بقلم العاهل المعظم، التي تزامن نشرها في الصحف المحلية والعربية مع أوج الاستعدادات الوطنية لمباشرة مرحلة تشريعية “انطلقت في 25 نوفمبر 2006م، واستندت – منذ ذلك الحين – إلى معمار دستوري متجدد تم التوافق على منطلقاته في الاستفتاء الشعبي البحريني على ميثاق العمل الوطني”، الذي اعتبره جلالته بمثابة “الضمانة والضابط الذي فكّر فيه ملياً ولسنوات، من أجل تجديد المسيرة الديمقراطية والدستورية لتجنب عثرات الطريق التي واجهت التجربة الأولى”.
هذه الخطوة، التي حصلت على الإذن الملكي، لم تأت اعتباطاً، بل درست اعتبارات نشر الكتاب الهام من عدة جوانب، ولا أخفي بأن الحافز الأول لهذا المشروع الذي دشنت من خلاله الدارة أولى إصدارتها، هو اهتمامي وانبهاري الشخصي بما خطه قلم العاهل المعظم من خلاصة فكرية استثنائية “لتجربته الشخصية التي اندمجت وتفاعلت مع تجربة البحرين التاريخية والوطنية”، وأرادها أن تصل لكل بحريني وبحرينية في أحاديث أخوية وأبوية “نابعة من القلب وعفو الخاطر”.
أما أسباب إصدار هذا الكتاب، من وجهة نظر مؤسسية، فتتمثل في التالي:
1-لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتفهم القارئ، أو حتى يفهم، برنامج العمل السياسي الوطني المتمثل في مشروع جلالته الإصلاحي، دون أن يُبحر في مخزون تلك التجربة التي استوعبت تحديات كل مرحلة وتعايشت مع كل ظرف بتفهم وحكمة، لتتجاوز بهدوء وحنكة وشجاعة أصعب الدروس، ولتقدّم لنا أجمل العبّر وأوقعها على النفس، بما تحمله من آمال الغد الأجمل للوطن.
من هذه التجربة الثرية تحديداً، التي يواصل من خلالها قائد البلاد الإبحار بسفينة الوطن، معتمداً في ذلك من بعد الله، على ثقته بشعبه ووعيه المدني المتحضر ونضجه الثقافي والسياسي وانفتاحه الفكري، من هذه التجربة تكونت التصورات العميقة لمشروع العمل الوطني الذي نعاصره – اليوم – ونعايش نتائج تطبيقه على واقع الحياة اليومية.
ومن دون الفهم الكامل لتلك الخلفية التاريخية سيكون استيعابنا لهذا المشروع قاصر، وبالتالي لن نتمكن من مواصلة زخمه وإثراء مسيرته بالإضافات والحوارات والإسهامات التي من الممكن أن تضيفها العقول الوطنية، أو ما أسماهم جلالته بـ «الشعوب الذكية» التي تستفيد من تجاربها لتنير طريق تقدمها.
2-أهمية إبراز القناعات الفكرية تجاه عدد من القضايا الوطنية، التي ولّدت هذه التجربة الثرية لقائد البلاد، والتي نتج عنها رؤية وطنية شاملة التقت حولها مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية، لترتقي بأدائها ولتمارس مسئولياتها كمؤسسات متمكنّة من انفاذ جوهر تلك الرؤية مجتمعياً، وبإدارة واعية «للرأي العام الوطني العقلاني والهادئ والحر مهما بلغت درجة الاختلاف في الرأي»، لتكون المحصلة النهائية لمثل هذا التفاعل «المشاركة الإيجابية اللازمة ليستمر التطوير من داخل البناء الوطني لا من خارجه».
وتمتد تلك القناعات الفكرية العميقة والمتفاعلة مع وعيها الوطني، لتشمل مسائل في غاية الأهمية، كالازدهار الاقتصادي والتعايش الإنساني وتطوير النظام التربوي وحفظ حقوق المرأة البحرينية والإسهام في الاستقرار العالمي والدعوة للوحدة الاقتصادية وتكامل المشاريع الخليجية، وبالتركيز على «تحديث العقول» الشابة المقبلة على المساهمة الوطنية، وبالتحذير من الوقوع في فخ «التحديث المادي» المنعزل عن الواقع والمقتصر على اكتساب قشور ما يمتلكه الأخرين، وذلك بالإقبال على ثقافة الإنسانيات والسلوكيات المدنية المتحضرة وخصوصاً المتعلقة بممارسة الحريات المنضبطة واحترام القانون والنظام العام، وهي توليفة ضرورية لا بد منها لتعبئة الشباب بالزاد الصحيح، مع حماية حقهم الطبيعي في ممارسة «فرح الحياة» وشعورهم بالتفاؤل استعداداً للمستقبل.
3- ولربما من الأسباب الثانوية التي شجعتنا لهذا الإصدار بهدف حفظ هذه الأحاديث السامية، هو ذلك الالتزام المعنوي أو الأدبي الذي لمسناه لدى راعي الدارة تجاه مشروع الإصلاح الوطني، الذي، في ظننا، كان شاهداً ومتفاعلاً ومساهماً في تلك الانطلاقة الوطنية، وعمل بكل ما يملك من فكر إصلاحي وحماسة وطنية وإخلاص ومحبة وتقدير لا محدود لشخص جلالته، لأن تنجح هذه التجربة، التي هي في الحقيقة محصلة للجهود التاريخية لأجيال البحرين، و«المظلة الواقية لمختلف الأفكار والاتجاهات والاجتهادات الوطنية، والصدر المتسع لهموم وتطلعات الجميع بلا تمييز ولا استثناء» ولتكون البحرين، على عادتها، متفوقة في نموذجها الحضاري الذي يتميز بخصوصيته وفرادته وبقدرته على الاشعاع الفكري والروحي حتى يومنا الحاضر.
كل هذا التقديم يقودنا إلى حقيقة أكيدة، بأن التجربة عاصرت زمناً ليس بالسهل وكانت التضحيات على وزن الإنجازات التنموية الكبيرة لبحرين اليوم، المسلّحة بالعزيمة الوطنية الصلّبة، وهي بحسب شهادة جلالته، كانت على الدوام صفاً واحداً في وجه الشدائد، وبإرادة تحلت بالصبر والحكمة والاعتدال والاحتمال، وكان التشاور والتحاور والاستبشار والتفاؤل بالخير وباليسر والتيسير والتوكل على الله من بعد الأخذ بكل أسباب الاجتهاد، هي وصفة النجاح الذي هو قدر أهل البحرين، بإذنه تعالى.
مع تطلعنا بأن يصنّف هذا الإصدار كأحد الوثائق التي ستحفظها الذاكرة الوطنية لتكون من بين أهم وثائق العهد الزاهر ضمن سجلات (مركز الأرشيف الملكي) ورجائي الحار للمؤسسات التعليمية باعتماد المؤلف على قائمة مقرراتها الحرة في منهج التربية الوطنية، وأن يُدرج، كذلك، في خطة (بحريننا) التي تعتني بهذا الملف الهام، فوجاهة ووزن مضمونه يؤهله بأن يكون أحد مصادر حفز الهمم الوطنية والشعور بالفخر تجاه تجارب البحرين ونضال قادتها وشعبها من أجل التفوق الحضاري.
ملاحظة: كل ما ورد من تنصيص في المقال منقول بتصرف من كتاب (سلسلة أحاديث الوعي الوطني).
عن صحيفة (الأيام) البحرينية