من دون شك، فإن الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل كانت الأكثر جرأة في استنزاف المخزون المعرفي للعقل النووي على الجبهتين، وإضعاف مصادر التدفق العلمي لكل طرف في مجال التفوق الذري. فقد صُممت الضربات المتبادلة بعناية لاستهداف منابع تلك المعرفة وقصف معاقلها، بشرية كانت أو مادية.
المخيف في الأمر أن المبارزة على الساحة الإقليمية بين القوتين النوويتين لا تبدو متجهة نحو التهدئة، في ظل استمرار التلويح بورقة التهديد المتبادل، وهو تلويح يثور ويخبو بناءً على تجدد نزعات الاستعداء والميول المتطرفة في التوسع وبعثرة خرائط المنطقة، التي تواجه بدورها خطراً مريعاً يتمثل في حيازة الأسلحة النووية وهوس استعراض القوة، بدلاً من توظيف هذه المقدرة والمعرفة لإنتاج طاقة متجددة تغني عن «بقرات زيد» وتحقق ما طال انتظاره من تنمية ورخاء وهدوء إقليمي.
ومع بقاء الحالة الراهنة على حالها، يذكرنا التاريخ بأن دخول الأمم إلى نادي الكبار لإنتاج الطاقة النووية ليس كالخروج منه؛ إذ إنها عملية معقدة تخضع لعوامل عديدة، أولها عامل الثقة في الأعضاء الجدد، مع ضرورة توافر قاعدة واسعة من المصالح الاستراتيجية ذات الفائدة المشتركة لنيل العضوية «النووية».
كما أن كسر احتكار القوى الكبرى والدول المتقدمة للتكنولوجيا النووية لم يكن دائماً سهلاً، خصوصاً بالنسبة لبعض دول العالم النامي، الشرقية تحديداً، التي بدأت أولى محاولاتها باستثمارات ذات أغراض سلمية، وإن كان القصد الضمني، في أغلب الحالات، استخدام هذه التقنية كورقة ضغط نفسي في سيناريوهات مستقبلية محتملة على مسار استخداماتها «غير السلمية».
فمثلاً، يعود نشاط إيران الذري إلى الخمسينات، حين انضم الشاه إلى برنامج أمريكي سُمي، في حينه، «الذرة من أجل السلام»، بمبادرة من الرئيس أيزنهاور، لفتح أبواب تعاون وتنسيق دولي جديد لتطوير وتوجيه استخدامات الطاقة النووية نحو الأغراض السلمية، والتنبيه إلى ضرورة تقييد انتشار الأسلحة النووية بعد استخدامها الكارثي على البشرية.
ولم يتوقف الشاه عند هذا الحد، بل أقدم في أوائل السبعينات، بناءً على تقرير رسمي باكستاني يحذر من قرب امتلاك الهند قنبلة ذرية، على تشكيل «مجلس ذري» ضم 61 عالماً إيرانياً تم استدعاؤهم من برامجهم التدريبية في الولايات المتحدة وأوروبا، تحسباً للتفوق النووي الهندي. وقد شجعه على ذلك انفتاح غربي «استثنائي» على تطوير البرنامج الإيراني باعتباره برنامجاً «بريئاً» وسلمياً، ولا خوف من نواياه لا اليوم ولا غداً.
على هذه الخلفية التاريخية، تستند النسخة الحالية من البرنامج النووي الإيراني، الذي كان يُنظر إليه يوماً على أنه في يد حليف استراتيجي وصديق موثوق. لكنه تحول اليوم، بالنسبة للعالم أجمع، إلى تهديد كبير وتحدٍ معقد مع وصول التقنية إلى يد قيادة ترجح كفة المغامرة وغموض المواقف، وإن كانت فتوى المرشد، كما يُذاع، تُحرم تحريماً تاماً تحويل الطاقة السلمية إلى سلاح فتاك.
مع ذلك، فإن فكرة الخلاص من البرنامج الإيراني النووي تبدو ضرباً من الخيال. فالبرنامج، بغض النظر عن خطورته، يعتبره الداخل الإيراني جزءاً من الهيبة الفارسية، وداعماً لعقيدتها الثورية، ومصدراً للفخر لترسانتها العسكرية. وهو شعور قومي يتصاعد بعد الأحداث الأخيرة، ويتطلب، في حد ذاته، تكتيكاً تفاوضياً مختلفاً للخروج من هذا المأزق، وعلى غرار سياسات «حفظ الوجه» التي أوقفت الحرب الأخيرة.
ولربما يكون التفكير في إقامة تحالف «إقليمي» لإنتاج الطاقة النووية السلمية – وهو ما سبق أن أشرنا إليه في هذه المساحة في السابع من أبريل الماضي – خطوة مجدية لمنح البرنامج الإيراني الصفة السلمية ومبررات حفظ ماء الوجه للانتقال إلى مرحلة التفاوض. والأهم من ذلك، إيجاد أفق جديد للانفتاح على دول المنطقة من خلال مثل هذا المشروع الاستراتيجي المشترك، على أمل أن تخمد نيران الحرب، ويُستأنف العمل على استحقاقات التقدم والأمن والاستقرار من باب التغيير على الأقل، إن لم يكن من باب المسؤولية الأخلاقية أمام تاريخ لن يرحم من لا يتعظ من دروسه، أو يحترم سننه.
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة