في يوم من أيام ربيع 1937م كانت مدينة غيرنيكا الصغيرة في شمال إسبانيا تعيش حياة هادئة، لا تدري أن السماء على وشك أن تمطر نارًا، طائرات ألمانية وإيطالية، أُرسلت لدعم الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، أغرقت المدينة بالقنابل. لم يكن الهدف عسكريًا بقدر ما كان رسالة رعب. مئات المدنيين سقطوا في لحظة، وترك الدمار أثرًا لا يُنسى.
في باريس، قرأ الفنان الإسباني بابلو بيكاسو الخبر في صحيفة (Le Soir) لم يكن هناك ليرى المشهد، لكنه شعر بثقل الكارثة. لم يحمل سلاحًا، ولم يعتلِ منبرًا سياسيًا، لكنه فعل ما يعرفه جيدًا: رسم في مرسمه الباريسي، بدأ يرسم لوحة ضخمة بالأبيض والأسود والرمادي، وكأنها صفحة جريدة ناطقة بالأنين. كانت اللوحة مخصصة للجناح الإسباني في المعرض الدولي بباريس. أطلق عليها اسم (غيرنيكا) لم تكن مجرّد تجسيد لمجزرة، بل تسجيل بصري للحظة انهيار، توثيق لفاجعة، وصوت حر وسط ضجيج الحرب.
في اللوحة حصان يصرخ، ثور يزمجر، أم تحتضن طفلها الميت، وعيون تتدلى من مصباح متدلٍ من السماء، لم يشرح بيكاسو هذه الرموز، لكنه ترك للناس حرية التأويل. كل من شاهد غيرنيكا وجد نفسه داخل المشهد، كأنها مرآة تسأل: ماذا لو كنت أنت هناك؟
بيكاسو لم يكن محاربًا، بل فنانًا يستخدم ريشته كأداة للتعبير، وللتوثيق، ولطرح الأسئلة الصعبة. وهذا ما يفعله الفن حين يُعطى المساحة ليكون حرًا.
غيرنيكا لم تكن الوحيدة. عبر التاريخ، ظهرت أعمال فنية أخرى تقف في وجه الظلم. لوحات الفن الفلسطيني المعاصر، مثل أعمال سليمان منصور، وتمام الأكحل، جسّدت معاناة شعب تحت الاحتلال، وحوّلت الألم إلى رموز وطنية لا تُنسى. وفي السودان، خرج الفنانون إلى الشوارع خلال الثورة، فحوّلوا الجدران إلى أرشيف مفتوح للحلم والتحدي، رسموا الأمل والحرية والكرامة، بألوان تعبّر عن نبض الناس وصمودهم.
الفن لا ينهي الحروب، لكنه يفضحها، لا يوقف الظلم، لكنه يضيء عليه، الفن شاهد وموثق، وجسر بين الحقيقة والمستقبل.
غيرنيكا لم تكن مرآة مشققة تعكس رعب الحرب فحسب، بل كانت مشهدًا كاملًا لصوت الإنسانية وهي تختنق، كل عنصر في اللوحة صُمّم ليُربك، ليهزّ، ليُشعر المُشاهد بأنه ليس خارج الحدث بل جزء منه. الحصان المجروح وسط اللوحة يمثل الضحية، والثور الهائج ربما يرمز للعنف الأعمى أو للشعب الغاضب، الأم التي تصرخ بابنها الميت هي صرخة كل أم في كل حرب، والذراع الممدودة بشمعة في الظلام تقول: هناك دائمًا من يبحث عن ضوء، ولو خافت.
اليوم.. لا تزال غيرنيكا تُعرض في متحف رينا صوفيا بمدريد، تراقب العالم بصمت، وتذكّرنا أن الفن الحقيقي لا يُنسى، لأنه لا يصف فقط ما حدث، بل يوقظ ما يجب أن يحدث: أن لا ننسى و ان لا يتكرر.