من الأهمية بمكان وبعد أن أُسدل الستار على القمة العربية الثالثة والثلاثين في البحرين، أن نتعرف على أهم القضايا التي كانت على ما أعتقد جوهر المباحثات والبحث والقرارات العربية في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها ويمكن وضعها في إطار أمرين لا ثالث لهما:
الأمر الأول: العلاقات مع اسرائيل بعد طوفان الأقصى الذي أعاد القضية الفلسطينية الى قلب الأحداث في العالم والذي أكد عدم مصداقية واستعداد اسرائيل للسلام الذي عملت على تكريسه ثنائيًا، إلا أن التطورات في غزة ورد الفعل الاسرائيلي بحرب الإبادة الجماعية ورد المجتمع الدولي والشعوب في شتى أنحاء العالم، فتح أبوابًا جديدة للصراع الطويل بين العرب واسرائيل والذي كما أراه يسير نحو الحل السلمي الشامل والعادل، وإن لم تزل الولايات المتحدة تعيش حالة من الضبابية في علاقاتها مع العالم.
ثانيًا: العلاقات مع ايران التي هي الأخرى تاريخ من المشاكل والتدخل في الشؤون الداخلية واحتلال الجزر الاماراتية حالها في ذلك الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وما حولها في الجولان والاردن. لذلك ومع التطورات الحالية في العلاقات مع ايران لابد من إيجاد أسس صلبة لبناء جسور الثقة بين العرب خاصة في الخليج العربي وايران. وأعتقد أن وفاة الرئيس الايراني في حادث (الهليوكبتر) الغامض يفتح الأبواب (لابن خامنئي) نحو السلطة والعمل على ترميم علاقات ايران مع محيطها الخليجي والعربي والعالم.
وبالعودة الى القمة، يسترعي انتباهنا وجود نهجٍ ومبادئ مهمة ولأول مرة في مسيرة التضامن العربي المشترك، وأشار اليها جلالة الملك المعظم رئيس القمة العربية في خطابه الافتتاحي، وأعتقد أنها رؤية جديدة سيكون لها أبعاد ونتائج خلال العام القادم من رئاسة البحرين للقمة العربية وتستحق المتابعة والاهتمام؛ لأنها تفتح للعالم التوجه الجديد الذي يقوده جلالة الملك المعظم رئيس القمة العربية في إطار آلية تعتمد على التحرك والزيارات التي قام بها جلالته الى روسيا والصين التي سيقوم بها لاحقًا لتتفيذ قرارات القمة العربية التي من أهمها مبادرات البحرين السياسية والإنسانية ودعم عقد مؤتمر دولي للسلام في البحرين.. في هذه الجزيرة الصغيرة التي تقع في قلب الخليج العربي وأصبحت تحمل هموم الأمة العربية في عالم عربي يموج بالصراعات والحروب والأطماع منذ عام 1948، وبعد أن أصبح العالم آحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة بقوتها العسكرية والاقتصادية والنفوذ الاجتماعي والثقافي منذ نهاية الحرب الباردة التي كانت بداية ظهور أمريكا كنظام عالمي بدون منافس بعد تراجع الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990.
إلا أن التحرك الذي يقوم به رئيس القمة العربية يؤكد بأن على الدول المحبة للسلام أن تبحث عن آلية بديلة عن الأوضاع الحالية لصنع السلام الشامل والعادل في منطقة الشرق الأوسط وإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية. لذلك فإن تحقيق السلام المثالي يقوم على رؤية جديدة للسلام تقوم على مرتكزات الحوار والتعايش والإخاء كأسس لا غنى عنها من أجل تحقيق الأمن والاستقرار العالمي، وهو خيار استراتيجي يحمي ويدعم الأهداف الإنسانية من أجل عالم يسوده العدل والمساواة والعلاقات القائمة على الثقة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
ولم تأتِ مبادرات جلالة الملك المعظم رئيس القمة العربية من فراغ، بل جاءت من تاريخ وتجارب متعددة مرت بها البحرين منذ استكمال استقلالها عام 1971، فكان لها نهج خاص لحل كل ما يخص مشاكلها في إطار مجلس التعاون او الإقليم المحيط بها بالطرق السلمية والأمثلة على ذلك هي قصة حضارة البحرين عبر التاريخ وقصة مبادراتها في القمة العربية الثالثة والثلاثين:
أولاً: دخلت معركة عروبتها كدولة عربية مسلمة ونجحت في إنهاء الادعاءات الايرانية عن طريق الأمم المتحدة وحصولها على صك إنهاء كل ما يتعلق بهذا الأمر الحساس والخطير جدًا من مجلس الأمن الدولي في 16 أغسطس عام 1970.
ثانيًا: استكمال استقلالها عن بريطانيا عام 1970 بالوسائل السلمية وإنهاء كافة التعاقدات والمعاهدات الموقعة بين البلدين في عام 1820 وعام 1861 وعام 1880 وعام 1892.
ثالثًا: إنهاء خلافها الحدودي مع قطر من خلال محكمة العدل الدولية في عام 2001 بعد صدور حكمها بسيادتها على جزر حوار وقطعة جرادة، وكان لإغلاق ملف الحدود بين البلدين انعكاسات إيجابية أدت الى تعزيز العلاقات الثنائية بينهما ودعم مسيرة مجلس التعاون نحو مزيد من التطور.
وبين الأمس واليوم، نجد البحرين وبقيادة حكيمة لصاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة رئيس القمة العربية، تعمل على تأكيد دورها من أجل السلام من خلال الزيارة التي قام بها الى روسيا في إطار تجارب البحرين ونهجها السلمي من أجل إيجاد الحلول لقضايا الأمة العربية التي من أهمها قضية العرب الأولى.. قضية فلسطين، لذلك كانت قمة البحرين.. قمة مختلفة جدًا عن كل القمم السابقة .. لماذا؟
1- نلاحظ أن جلالة الملك المعظم في خطابه الافتتاحي للقمة العربية، قدم مبادرة مهمة بعد التطورات التي مرت بالقضية الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023م، هذه المبادرة تجسِّد نهج البحرين وإيمانها بضرورة استتباب السلام العادل كخيار استراتيجي، الذي انعكس في الزيارات الرسمية التي قام بها جلالته كرئيس للقمة العربية بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط في البحرين، وكذلك دعم الاعتراف الكامل بدولة فلسطين وقبول عضويتها في الأمم المتحدة.
2- المنعطف الخطير والتطورات الإيجابية في مواقف الدول الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية بعد اعترافات عدد منها مثل اسبانيا وايرلندا والدانمارك بدولة فلسطين.
3- كل هذه التطورات المهمة سوف تضع الولايات المتحدة على المحك بعد التحرك الدبلوماسي والزيارات التي قام بها جلالته الى روسيا والصين في وقت لاحق، لأنه اذا ما تمت الاستجابة الشاملة من الدول الأوروبية وبقية الدول المحبة للسلام والأطراف الفاعلة بالاعتراف بدولة فلسطين، فإن ذلك من شأنه أن يشكل تطورًا في غاية الأهمية وطريقًا جديدًا يُفتح ولاول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية، ويصبح عقد مؤتمر دولي للسلام في البحرين مبادرة ملحة سوف توفر رؤية جديدة وفكر أكثر واقعية لدى الدول خاصة الولايات المتحدة والدول متأرجحة الموقف بسبب الضغط الامريكي عليها.
4- تبقى حقيقة مهمة ونهائية في مسلسل مبادرة جلالة الملك المعظم وهي أن الادارة الامريكية وعلى وجه التحديد بحاجة الى مراجعة نفسها بعيدًا عن اعتبارات الانتخابات الرئاسية القادمة وتأثيرات اللوبي اليهودي (الصهيوني) على هذه الانتخابات؛ لأن بعض الدول الاوروبية حسمت امرها وابتعدت عن التأثير الامريكي على قرارها، لتبقى الولايات المتحدة وحيدةً في موقفها السياسي الى جانبها اسرائيل والأعداد الضئيلة من الدول الصغيرة والجزرية في المحيط الأطلسي التي تعتمد على دعم الولايات المتحدة. إن مبادرة الحل السلمي للقضية الفلسطينية قائمة على ما هو قائم فعلاً من أدوات وحلول مستدامة للقضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، كما أن قبول عضوية فلسطين في الأمم المتحدة من شأنه أن يمثل دعمًا دوليًا مهمًا لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية.
وقد جسَّد خطاب جلالة الملك المعظم فكرًا واضحًا لا يحتمل التأجيل خاصة بعد كل التطورات الإيجابية التي تدعمها أكثر من 143 دولة في الأمم المتحدة محبة للسلام، مما يؤكد بأن السلام الشامل والعادل يشكل إرادة وقيمة إنسانية عظيمة، وأن قدرة الدول العربية على النجاح في «معركة السلام» مرتبط بشكل رئيسي بضرورة اتخاذ القيادات العربية استراتيجيات جديدة لتعزيز العلاقات العربية العربية، تقوم على اساس مد جسور الثقة واتخاذ الحوار والتضامن والعمل العربي المشترك طريقًا لوقف الصراعات والحروب القائمة في اليمن والسودان وجنوب لبنان وغزة من أجل إحلال السلام الشامل والعادل، كخيار لا بديل عنه.
عن صحيفة (الأيام) البحرينية