تلاحقني هذه الجملة عند سماع قصة من قصص التميز النادرة التي تخرج عن المألوف في أدائها، سواء نتجت عن اجتهاد فردي لبناء سمعة أو تحقيق أثر تتوارثه ذاكرة الزمان والمكان، أو حققته منظومة عمل إدارية تفوقت في تقديم خدمة أو منتج يراعي الجودة لا الكثرة. وأقصد هنا القصص التي تجبرك على الإعجاب بتكامل عناصرها، وقدرتها على النجاة من الغرق في بحور التكرار الممل أو الاستهلاك المبتذل في عوالم الشهرة أو الأعمال.
مسألة الانشغال بالكمّ على حساب الكيف، دون اكتراث أو تركيز على جودة المخرجات، باتت ظاهرة عامة في مجتمعات الحداثة التي تسعى لتسليع كل شيء، حتى الماء والهواء والإنسان. وهي قضية فكرية تشغل علماء الاجتماع الذين تقلقهم العلاقة السببية بين الاستهلاك المرضي وتسليع مظاهر الحياة، مما يؤدي بالمستهلك إلى الوقوع في مصيدة «المركنتيلية»، وتعريفها في معاجم اللغة بأنها «نزعة المتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر». ومحصلة ذلك تفاقم حالة الإدمان الاستهلاكي كوسيلة لبقاء السوق مزدهراً بـ«المصائد».
قد نعتقد أن المستهلك هو المتأثر الوحيد داخل هذه المعادلة الصعبة في توازناتها. لكن في الحقيقة، الضحايا كثيرون، ومن أبرزهم قوى الإنتاج التي تفقد قدرتها، مع الوقت، على الإبداع والابتكار، والمحافظة على جودة ما يصل إلى يد المستهلك أو متلقي الخدمة.
مثل هذا الخلل أكبر من أن يُربط فقط بمحيط ومعاملات السوق، فهو يتغلغل في فضاءات العمل بشكل عام، وفي التعليم وحتى في الحياة الشخصية، حيث بات كل شيء يُقاس بالكمّ لا الكيف. فيرتبط النجاح بعدد ساعات العمل بغضّ النظر عن الناتج، وعدد الكتب التي قُرئت وإن لم تُفهم، وعدد ما يمتلكه الإنسان من متاع يستمد منه قيمته في المجتمع.
التركيز على ثقافة الجودة في الأداء، ليكون الناتج النهائي من جنس العمل، يتطلب تحولات ثقافية عميقة، ومراجعات مسلكية جريئة، وقرارات مرنة ومتجددة لضبط التوازن بين «الكمّ» و«الكيف». وهذا لن يتحقق إلا بالتركيز على التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، واستخراج القيمة غير التقليدية في سلوكنا البشري أولاً، لينعكس ذلك على جودة ما ننتج.
ولأن ثقافة العمل اليابانية تفرض نفسها في مثل هذه السياقات، رغم انتقادها بأنها من أنصار الإفراط في العمل، وانتقادي، أحياناً، لإعجابي الشديد بها، إلا أنها، شئنا أم أبينا، تتمسك بفلسفة إدارية قومية تبث الحياة في مصفوفة أخلاقيات وقيم هذا المجتمع الشرقي المنضبط، لتنعكس على طرائق العمل عبر نظرية «التحسين المستمر» بكل ما تعنيه الكلمة. كما تعتمد، بصورة دورية لا موسمية، ما يُعرف بساعات التفكير التي لا تهتم فقط بابتكار الجديد، بل بتحليل الأخطاء وإيجاد حلول جذرية تجعل تكرار «ذات» الأخطاء من «سابع» المستحيلات.
من القصص المثيرة للإعجاب، وما أكثرها في عالم الأعمال الياباني، هي قصة أحد المطارات اليابانية الذي نجح في تحقيق «صفر» ضياع لحقائب المسافرين على مدار ثلاثين عاماً. هل يمكن تخيّل ذلك؟ ثلاثة عقود من الأداء المتقن والمحافظة على ثبات السمعة دون انتكاسة واحدة، ودون لهث وراء الجوائز العالمية.
وطبعاً، إنجاز كهذا ينقلنا إلى ذلك التناغم المدروس للعقل الإداري الذي أصرّ على استدامة تحقيق الهدف، لتتحول القصة إلى فصل من فصول النجاح القائم على ضبط التوازن بين الكمّ والكيف، ولتيسير الانتقال السلس لجوهر النجاح من جيل إلى آخر.
أما المثل الآخر الذي سأضربه هنا، فهو لشركة «إيرميز» الفرنسية الفاخرة والمحافظة على جودتها وسمعتها منذ ولادة فكرتها. الشركة، بالرغم من تحكمها في نظام العرض المحدود مقابل الطلب المتزايد على بضاعتها بطريقة تثير جنون زبائنها، إلا أنها نجحت نجاحاً باهراً في تسليع منتجاتها عبر رمزيتها الثقافية المرتبطة بالسمعة الباريسية كعنوان للذوق والفخامة، وبتاريخ اقتناء قطعها من قِبل الشخصيات الشهيرة، كأميرة موناكو، غريس «كيلي»، والممثلة الفرنسية جين «بيركن».
وإلا بماذا نفسّر بيع أول قطعة «بيركن» التي صُنعت خصّيصاً للممثلة، وفي أحد أشهر المزادات، بعشرة ملايين دولار أمريكي؟ ويقال بأن المشتري ياباني، ولكن لا دخل لي في ذلك!.
عن صحيفة (الوطن) البحرينية