الرئيسية / أخبار / فنجان من (العظم)- بقلم منى الروبي

فنجان من (العظم)- بقلم منى الروبي

في عمق التراث الصيني القديم، تبرز واحدة من أكثر الفنون ندرةً وتعقيداً: فن نحت (Bone China) أو ما يُعرف (بالخزف العظمي)، وهو نوع من الخزف الدقيق الفاخر الذي يمزج بين مسحوق العظام والكاؤلين (الطين الصيني) . رغم ارتباط الاسم بكلمة “Bone” (عظم)، إلا أن الجمال الذي ينتجه هذا الفن فائق الرقّة؛ وشفافية لا تضاهى.

تعود أصول هذا الفن إلى عهد أسرة تانغ في القرن التاسع، حين بدأ الحرفيون في استخدام مسحوق عظام الحيوانات.. نعم العظم الحقيقي كعنصر أساسي لصناعة الخزف الأبيض النقي، وذلك لإضافة صلابة وشفافية للمنتج. ولكن الشكل الأقرب لما نعرفه اليوم من “Bone China” تطوّر في إنجلترا في القرن الثامن عشر، بعد أن استُلهِم من الخزف الصيني الأصلي، وتحوّل إلى صناعة راقية في أوروبا، لكن في الصين، ظلّت النسخ الأصلية الممهورة بالحرفية الدقيقة محتفظة بمكانتها العالية، خاصة في مدينة “جينغده تشن”، عاصمة الخزف بلا منازع، حيث وُلد أعظم الحرفيين.

يُقال إن الإمبراطور تشيان لونغ في القرن الثامن عشر أمر بصنع طقم شاي من الخزف العظمي لمحبوبته، وجاءت النتيجة مذهلة لدرجة أنه أخفى المجموعة في قبو قصره حتى لا تُنسخ أو تُسرق، ولا تزال هذه القطع تُعرض اليوم في متحف القصر الإمبراطوري وتُقدّر بملايين الدولارات، ومن الطرائف أن أحد الخزفيين حاول ذات مرة صنع فنجان “يصدر صوتًا” عند سكب الشاي فيه، ليكشف إن كان الشراب مسموماً، هذه القطعة أصبحت أيقونة بين هواة جمع الخزف الصيني وربطها بالارواح.

من بين أشهر الفنانين الذين برعوا في هذا الفن “لي شينغ تاو”، الذي استطاع عام 1962 أن ينحت مجموعة أطباق تُظهر مناظر طبيعية تتغير تفاصيلها حسب زاوية النظر، باستخدام طبقات فائقة الدقة من Bone China. وقد عُرضت أعماله في باريس ولندن ونُظر إليها كمعجزة فنية لا تتكرّر.

تكمن قيمة Bone China في مزيج نادر من القوة والشفافية، فهي رقيقة حتى يكاد الضوء يمر عبرها، ولكنها قوية كالفولاذ تُستخدم اليوم في القصور والمراسم الملكية حول العالم، وما زال صانعوها في الصين يتوارثون أسرارها ككنز مقدّس لا يُفشى إلا للأبناء المُخلصين. هذا الفن ليس فقط خزفًا يُؤكل عليه أو يُشرب منه، بل هو حكاية الفنان الذي استطاع ان يسخر العظام  والنار، صاغها موروث ثقافي الخزاف الصيني عبر قرون، وجعل منها إرثاً خالدًا شاهدا على حرفية الأجداد.