الرئيسية / أخبار / دلمون العظيمة..!.. بقلم منى الروبي
منى الروبي

دلمون العظيمة..!.. بقلم منى الروبي

حضارة دلمون لم تكن مجرد اسم في الألواح الطينية، بل واقعًا حيًا ترك بصماته في البحرين وما حولها. بين عامي 2000 و1600 قبل الميلاد ازدهرت دلمون لتصبح جسرا بين وادي الرافدين ووادي السند، ومركزًا تجاريًا وروحيًا ربط العراق والأحساء وعُمان بسفنها وأسواقها وأختامها. في نصوص سومر وبابل وُصفت بأنها (أرض الخلود)، مكان الطهارة والنور، وفي الأختام التي اكتُشفت في البحرين نرى سفنًا تحمل رجالا ونساء، طقوسا للزواج، وأهازيج دينية جماعية.

الحُكم كان ملكيا وراثيا، ومن أبرز الأسماء ريموم وياجلي إيل، اللذان تُذكر أسماؤهما على أختام وألواح مسمارية، كان النظام قائما على سلطة مركزية صغيرة قرب الموانئ، مع وزراء للتجارة والضرائب، فيما انشغل الكهنة والكتبة بنقل العقود وتدوينها بالخط المسماري المستورد من العراق. ومن خلال هذا التدوين نعرف أن التجارة مع عُمان وفرت النحاس، ومن وادي الرافدين جاء الشعير والقمح، فيما صدّرت دلمون التمور واللؤلؤ والسمك المجفف.

المجتمع كان منظما لكنه بسيط، الرجال عملوا في الزراعة وصيد الأسماك والتجارة البحرية، والنساء شاركن في الطقوس وفي الأسواق، وكان لهن حضور في الاحتفالات. الزواج اتخذ طابعًا دينيا واضحا، حيث يقف العريس والعروس أمام رمز الإله (إنكي)، وتُسكب المياه العذبة على أيديهما كعلامة بركة، ثم تُنشد أغانٍ وأهازيج تصف الخصوبة والاتحاد، وتُقرع الطبول والدفوف احتفاءً بالحدث، في المقابر عُثر على أوانٍ فخارية بداخلها عقود صغيرة أو خرز ملون، يُعتقد أنها كانت هدايا زواج أو رموزًا لعلاقة أبدية تستمر بعد الموت.

أما الملابس فلم يبق منها أثر مباشر، لكن من الأدوات المكتشفة كالدبابيس والخرز والأقراط، يمكن تخيّل أزياء مزينة بخيوط ملونة وأقمشة مستوردة من وادي الرافدين. الرجال ربما ارتدوا أثوابا قصيرة عملية للصيد والعمل، فيما لبست النساء أردية أطول مزينة بالخرز أو الأحزمة المعدنية، الزينة الشخصية كانت بارزة؛ الحلي من الذهب والصدف والأحجار الكريمة الصغيرة كانت جزءا من الهوية الاجتماعية.

الجانب الروحي كان حاضرا في معابد باربار التي لا تزال أطلالها قائمة، حيث عُبد (إنكي) إله المياه العذبة، وننسو إله القمر، وعشتار إلهة الحب والخصب، الطقوس ارتبطت بالماء والغناء والرقص الجماعي، وكانت جزءًا من هوية الناس اليومية، وقد نقلت التراتيل السومرية وصف دلمون بأنها الأرض الطاهرة، وهو ما يعكس علاقتها الوثيقة بالعراق من جهة، وبالأحساء وعُمان من جهة أخرى، عبر تجارة وروابط دينية مشتركة.

بهذا تبدو دلمون مجتمعا مسالما لم يعتمد على الجيوش، بل على التجارة والصلات الروحية والثقافية، وهو ما جعلها تترسخ في الذاكرة الأسطورية كأرض الخلود، حيث يلتقي التاريخ بالأسطورة في قلب الخليج.