قرر الفن أن “يفكها شوية و يريح ” ملّ من رسم التفاح و القوارير و الأسواق، ووجوه البورتريه الصامتة، والمناظر الطبيعية المكررة، ظوابط قاتله للحرية، كل ضربة فرشاه مدروسة الأبعاد العمق الظل الضوء احساس قاتل بالالتزام، وقال: “ماذا لو رسمتُ مشاعري بدل أن أنقل الواقع؟”. وهنا، وُلد الفن التجريدي، ذاك المراهق العنيد في عائلة الفن الراقي، الذي قرّر أن يرسم ما لا يُرى، ويترك المتفرج حائرا، سعيدا، أو حتى غاضبا!
واحد من أشهر أولاد هذا الفن هو فاسيلي كاندنسكي، رجل روسي رزين في الظاهر، لكنه في داخله كان كمن يعزف على لوحة مفاتيح الألوان، يؤمن أن اللوحة يجب أن تكون كقطعة موسيقية، لا تفهمها بعقلك، بل تشعرها بقلبك، يُقال إنه رأى لوحة ذات يوم وهو صغير، ولم يفهم منها شيئا، لكنها جعلته يبكي! من هنا، قرر أن يرسم أحاسيس لا مناظر، في إحدى لوحاته الشهيرة، كاندنسكي كتب ملاحظات موسيقية بجانب الألوان، وكأن الألوان تصدر نغمات! تخيل لو أن اللون الأزرق يعزف تشيللو، والأصفر يرقص كالكمان!
أما خوان ميرو، فكان فنانا إسبانيا مشاكسا، يبدو كطفل تركوه وحده مع الألوان وأخبروه أن يفعل ما يشاء، فعلا، ميرو كان يرسم نجوما كأنها عيون، ووجوها كأنها كواكب، ويحب أن يرسم وهو على السقف أو مستلقٍ على الأرض! قال ذات مرة إنه يريد “أن يقتل الرسم التقليدي”، ويبدو أنه لم يكن يمزح، لأنه حوّل الخط إلى نكتة، والنقطة إلى مغامرة، وعلى عكس كاندنسكي، الذي أحب النظام، ميرو أحب الفوضى الجميلة.
أما من يسألون بسخرية: “إيه ده؟ دي شخبط شخبيط !” فهُم لم يفهموا أن الفن التجريدي لا يطلب منك أن تراه، بل أن تعيشه.. صحيح أن البعض قد يضحك على لوحة بـ10 ألوان و3 خطوط ويقول: “فين الموضوع؟”، لكن هل يحتاج الحب إلى شكل؟ أو يحتاج الحزن إلى أنف وعينين؟ الفن التجريدي هو إحساس لا شكل.
وإن كنت تتساءل عن المال، فلوحة (رقم 5) لجاكسون بولوك، وهي خطوط متشابكة كأنها شبكة عنكبوت مجنونة، بيعت بـ140 مليون دولار! وميرو، رغم بساطة رسوماته، لوحته (Bleu II) بيعت بأكثر من 20 مليون دولار، يبدو أن “الشخبطة” أغلى مما نظن!
باختصار، بين كاندنسكي الذي نظم الألوان كأوركسترا، وميرو الذي رسم أحلامه كطفل فضائي، يبقى الفن التجريدي احتفالا بالحرية، واحتجاجا على الملل، وإن ضحك البعض منه، فهو يضحك معنا، لأنه لا يأخذ الحياة بجدية زائدة… وهذا أجمل ما فيه.