تقرير البحرين/المنامة/ نظم مركز كانو الثقافي ندوة بعنوان (الأستاذ حسن جواد الجشي مفكر من جيل الرواد) يوم الثلاثاء 17 اكتوبر 2023م قدمها الأستاذ علي عبدالله خليفة وتحدث فيها كل من الأساتذة محمد الخزاعي ومنصور سرجان وغسان الشهابي..
كلمة الأستاذة بهية الجشي
في البداية لا بد لي من توجيه كلمة شكر والمتنان بأسمي ونيابة عن عائلتي إلى مركز كانو الثقافي على تنظيم هذه الفعالية التي آمل أن تسليط الضوء على حياة المرحوم شقيقي حسن جواد الجشي، وهي حياة حافلة بالمحطات التي تميز كل منها بسمات ومنعطفات خاصة تجعل من الصعب التوقف بتمعن عند كل منعطف منها، ولذا، ولتوقعي بأن المتحدثين الأفاضل في هذه الندوة سيتناولون الجوانب العامة من سيرته الثرية في المجالات التربوية والثقافية والسياسية وهم ربما يكونون أكثر إلماماَ ومعرفة بذلك، فقد رأيت أن أتناول جانباَ مغايراَ ربما يكون مجهولاَ للكثرين، وهو الجانب المتعلق بدوره وتأثيره في الأسرة. الأسرة الكبيرة أولاَ ثم أسرته الصغيرة فيما بعد.
كعادة الأسر في ذلك الوقت، لم يكن من المتعارف عليه أن يحدد الوالدان عدد الأبناء الذين يرغبون في إنجابهم… كل شيء كان متروكاَ للصدف ولمشيئة الله وتشاء الأقدار أن يكون حسن باكورة الذرية الكبيرة العدد.. وأن أكون أنا أصغرهم. ولذا فارق العمر بيني وبين شقيقي جعلني أنظر إليه من الأسفل فأراه عملاقاَ مهيباَ ومثيراَ للإعجاب وللرهبة، كان الفارق بينه وبين الوالد لا يتجاوز سبعة عشر عاماَ.
وكان الوالد فخوراَ بأبنه البكر.. وكانت العلاقة بينهما أشبه بعلاقة الأخ بأخيه الأكبر، الأمر الذي جعلها متميزة وغريبة، كانت أقرب إلى الصداقة والندية والأخوة وقد انطبع هذا إلى حد كبير على شخصيته بحيث أنه أعتبر نفسه شريكاَ للوالد في مسؤولية العائلة من حيث التربية والتوجيه، بل أستطيع القول بأن دوره كان أكبر وأكثر تأثيراَ. وفي حين كانت الصورة السائدة عنه بين طلابه إنه كان صارماَ إلى حد القسوة ولا يتسامح مع الأخطاء مهما كانت بسيطة ولا مع التسيب، إلى الحد الذي جعل طلابه يسارعون إلى الاختباء عندما يرونه ماراَ في الشارع، فإن هذه الصرامة كانت ناجمة عن إيمانه برسالته التربوية.. حيث كان يرى في طلابه أبناءه، فكانت قسوته قسوة الأب المحب الذي يعد أبناءه ليكونوا مواطنين صالحين في خدمة الوطن، ومع ذلك فإن هذا الخوف الذي انتاب طلابه كان يترافق مع الاحترام والاعجاب حيث أن تتلمذوا على يديه كانوا يطلقون عليه معلم الأجيال. وفي البيت لم تخل معاملته لنا من هذه الصرامة.
إلا أن هذه الصورة كان يقابلها وجه آخر، وجه يتسم بالحنو والمحبة والاهتمام المفرط بالعائلة والأخوات والأخوان، إذ أعتبر أن لديه رسالة ينبغي عليه أن يؤديها تجاهم تتمثل في التربية والتوجيه، وبذلك فقد وضع على عاتقه عبئاَ كبيراَ عندما حمل نفسه هذه المسئولية فعل ذلك بصورة مباشرة مع الأخوات اللاتي تلينه في السن. ولما كان تعليم البنات غير متاح في ذلك الوقت، فقد أكتفين بتعليم القرآن في المطوع، وكان ذلك غير كاف بالنسبة له، إذ كيف يليق به وهو الإنسان المستنير أن تكون أخواته غير متعلمات؟ فانكفأ على تعليمهن بالمنزل حتى أتقن القراءة والكتابة وصارت الكبرى منهن تنظم الشعر الديني تكتب مقالات عن المرأة باسم مستعار في جريدة البحرين.
لم يتح لي مع الأسف أن أطلع على هذه الكتابات، ولكن كما علمت كان يحثها ويشجعها على الكتابة، هذه المحطة من حياته تعتبر إحدى الفرائد التي لا أعتقد أن الكثيرين غيره اهتموا بها، أعني أن يخصصوا وقتا للاهتمام بتعليم أخواتهم في ظل غياب المدرسة ولقد حاول أن يكون لعائلته نمط حضاري مغاير لما هو مألوف، وأدرك أن الطريق إلى ذلك لن يكون إلا بالتعليم والتعلم من خلال القراءة والإطلاع. وقد تمثل هذا الجانب بصورة خاصة في مكتبته الغنية والتي وضعها بين أيدينا لننهل منها، فقد تفتحت أعيننا على الحياة لنرى أمامنا كنزاَ هائلاَ مكدساَ على الرفوف متمثلاَ في الكتب المتنوعة والمجلات الثقافية والفنية والموسوعات وغيرها، وبفضله توثقت علاقتنا مع الكتب منذ الطفولة المبكرة بحيث أتذكر أنني في بداية المرحلة الابتدائية كنت أعاود قراءة بعض الكتب التي نستطيع أن نقاوم كل هذا الزخم من الكتب والمجلات التي كنا نقرأها بشغف وننتظر الجديد منها بلهفة. كنا نجلس معاَ. وكأننا في محراب، كل يحمل كتاببه كما يحمل أبناونا اليوم هواتفهم النقالة حين يجتمعون معاَ. وفي هذا المجال كان تأثيره على الوالد لا يقل عن تأثيره فينا. كان الوالد بسيط التعليم… ولكنه كان يشاركنا شغف القراءة وما أن ينتهي من كتاب حتى يطلب منا أن نختار له كتاباَ آخر فنندفع بفرح لنلبي طلبه.
نحن كلنا إخوة وأخوات وكذلك بناته فيما بعد مدينون له بهذا الشغف الذي زرعه في نفوسنا بحيث أصبحت القراءة جزءاَ ضرورياَ لاستكمال حياتنا، تماماَ كما نأكل ونشرب وننام. أستغرب عندما يسأل البعض عن هواياته فيقول القراءة، بالنسبة لنا غرس فينا أخي أن القراءة ليست هواية نمارسها في أوقات الفراغ، بل هي غذاء أساسي وروحاني للعقل والفكر كما نغذي أجسامنا بالطعام.. وبذلك فنحن مدينون له بتشكيل وعينا الثقافي وحسنا الوطني والقومي وانتمائنا العربي، حمل معه قضايا أمته كما أحتضن قضايا الوطن، وعلمنا أن الوطن ليس إنتماء للأرض فحسب وإنما هو قضية ينبغي أن نحتضنها بين جوانحنا برباط روحي لا يزعزعه شيء. وإنما وفي سنوات غربته بين الكويت ودمشق كان الوطن هاجسه الأول ولم تزده الغربة إلا ارتباطاَ به، فلم ينقطع تواصله مع العائلة لاستقاء الأخبار ولأبداء الاهتمام بها حتى وهو بعيد عنها. وقد بقي إرثه الثقافي معنا وما زال.
وفي هذا الجانب يمكننا أن نقول أن رسالته المجتمعية كانت تتطابق مع رسالته الأسرية، بعد زواجه أستمر في العيش في البيت الكبير.. واستمر في تأدية رسالته نحو الأسرة التي أضيفت إليها زوجته وبناته وكبر الاهتمام ليشمل أسرته الصغيرة حيث تقول ابنته عواطف بأن أكثر ما تتذكره عنه هو حنوه واهتمامه ببتاته وتعليمهن.. ورغم هذا الاهتمام فقد كنا نهابه ونحترس من عقابه، إذ كان أشد صرامة من الوالد الذي أعطاه مساحة من واسعة ليمارس دوره الأبوي والتربوي والذي ساهم إلى حد كبير في صقل شخصياتنا. وعندما كبرنا وخاصة بعد عودته من الاغتراب زالت الرهبة وتحولت العلاقة إلى نوع من الصداقة والانفتاح والحوار حول مختلف القضايا الثقافية والسياسية وغيرها، وكأننا أنداد له يحاورنا ويناقشنا ويستمع إلينا بكل أنتباه. كنا محظوظين بوجوده في حياتنا. بالنسبة لي كنت أتجلى خطه الجميل وتوقيعه المميز الذي كان يبهرني وأحلم بأنني في يوم ما سيكون لي مثل هذا التوقيع.. واليوم عندما أنظر إلى توقيعي ابتسم بكثير من الحب لأني أجد فيه تقليدا غير متقن لذلك التوقيع الذي بهرني وانا طفلة.
بالنسبة لي لا أستطيع أن أكون محايدة، بقدر افتخاري لكونه أخي وصديقي ومعلمي. بل أن هذا الشعور يمتد ليشمل كل أفراد العائلة الذين يرون فيه رائدهم ومثلهم الأعلى ومعلمهم الملهم.
أما بالنسبة لمشواره الصحفي والثقافي فإنني أترك الحديث عنه لغيري من المنتدين، إلا أنني كثيراَ ما تساءلت ما الذي أيقط وعيه ودفعه للتحذير من المسكوت عنه في ذلك الحين وهو مسألة الطائفية وتأثيرها على تماسك المجتمع ووحدته. كان ذلك في الخمسينات حين أطلق صرخته (لا للطائفية، فالوطن للجميع والرسول الكريم لم يكن سنياَ ولا شيعياَ بكل كان مسلماَ) يعطينا هذا دليلاَ آخر على دوره الريادي في بداياته. وحين نتحدث اليوم عن التسامح والانفتاح على الأخر فإن هذه الدعوة كانت رسالته التي تشبعنا بها والدرس الذي تلقيناه منه في معنى الانتماء الوطني.
وبعد عودته من سنوات الغربة التي أضاقت الكثير إلى وعيه القومي والسياسي كان مهيأ للقيام بالمسؤوليات التي أنيطت به والثقة التي نالها من القيادة الرشيدة. وعندما تولى رئاسة المجلس الوطني كان خطابه في افتتاح المجلس ذا طابع أدبي يتسق مع توجيهاته الثقافية والأدبية.
عاش أخي حسن حياة حافلة بالأحداث والمنعطفات المتنوعة التي تستحق التسجيل وخلف لنا سيرة جديرة بأن تروى، فهو لم يكن شخصاَ عابراَ في المشهد الثقافي وسيبقى أسمه راسخاَ في ذاكرة الوطن الذي حمله في وجدانه حيثما رحل، وكان هو عائلته الكبيرة التي أخلص لها. فهو لم يكن لنا وحدنا، بل كان لكل الوطن.. لكنه مع الأسف لم يرضخ لإلحاحنا ولم يشأ أن يكتب او يروي سيرته الحافلة. وبوفاته ضاعت صفحة جميلة من تاريخ البحرين الثقافي والسياسي.