هناك الكثير من العلاقات بين الدول لا تلفت نظر لأنها عادية وتقليدية جدا، لكن هناك بعض العلاقات بين الدول تبقى شاهدة على قدرة التاريخ والقيم المشتركة على الصمود أمام العواصف السياسية، هكذا هي العلاقة بين البحرين وباكستان؛ علاقة لم تُبنَ على المصالح الآنية أو الاصطفافات العارضة، بل تأسست على جذور ثقافية ودينية وإرثٍ إسلامي مشترك، تطوّر مع الزمن ليصبح تحالفًا متعدد الأبعاد، يمتد من التنسيق السياسي إلى التعاون الأمني والتواصل الشعبي.
بدأت خيوط العلاقة بالتشكل حتى قبل استقلال البحرين، وتحديدًا بعد استقلال باكستان عام 1947، حين بدأت تتوافد الجالية الباكستانية إلى دول الخليج، وكانت البحرين من أبرز الدول التي احتضنت هذه الجالية النشطة والفاعلة، وساهمت في التنمية الاقتصادية والتعليمية المحلية. هذا الحضور المجتمعي كان مقدمة لعلاقات رسمية تم تتويجها بعد إعلان استقلال البحرين عام 1971، حيث جرى تبادل الاعترافات الدبلوماسية، وتم افتتاح السفارة الباكستانية في المنامة في نفس العام، إلى جانب فتح السفارة البحرينية في إسلام آباد، مما شكّل لحظة تأسيسية لعلاقة ثنائية بنكهة استراتيجية.
السنوات الأولى من العلاقات الرسمية اتسمت بالاستقرار والتعاون المتبادل، خاصة في المحافل الدولية، حيث ساندت باكستان البحرين في قضايا السيادة والدفاع، بينما فتحت البحرين أبوابها أمام العمالة المؤهلة والخبرات الباكستانية، وبدأت مشاريع مشتركة في مجالات التعليم والتدريب المهني والصحة. هذه العلاقة لم تكن محصورة في الملفات السياسية، بل شملت أيضًا حوارات دينية وثقافية تعكس الانتماء المشترك للهوية الإسلامية المعتدلة.
زيارة الأمير الراحل إلى مدينة لاهور الباكستانية
وفي عام 1974، جاءت زيارة الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة إلى مدينة لاهور الباكستانية للمشاركة في مؤتمر القمة الإسلامي، لتُشكل أول حضور رفيع المستوى من القيادة البحرينية في باكستان، وتحمل معها دلالات واضحة على الرغبة في ترسيخ هذه العلاقة من خلال الحضور في المحافل الإسلامية الجامعة. وقد فتحت هذه الزيارة المجال لتعميق التعاون السياسي والديني، وأسست لتفاهم طويل الأمد بين البلدين.
وعلى الجانب الآخر، كانت البحرين في قلب الاهتمام الباكستاني، حيث زارتها رئيسة الوزراء الراحلة بينظير بوتو مرتين، في عامي 1990 و1996، في إطار جولات سياسية خليجية هدفت إلى تعزيز العلاقات البينية وتوسيع رقعة التعاون الاقتصادي والدفاعي. وقد ناقشت بوتو خلال زياراتها دعم الجالية الباكستانية، وتنشيط التبادل التجاري، إلى جانب ملفات أمنية تتعلق بالتنسيق في مكافحة التطرف وتعزيز الأمن الإقليمي.
تتابعت زيارات القادة لتُضيف مزيدًا من العمق إلى العلاقة، إذ جاءت زيارة الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى باكستان عام 2014 لتأكيد الدور المتبادل للدولتين في بناء تحالف إسلامي متوازن، وتضمنت توقيع اتفاقيات في مجالات الدفاع والاستثمار والتعليم. وفي المقابل، زار رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان البحرين عام 2019، وتم منحه وسام البحرين من الدرجة الأولى، في لحظة تؤكد الاحترام المتبادل والرمزية السياسية التي تحملها العلاقات بين البلدين.
وفي الصفحات الأولى للكتاب الذي أصدرته مع زميلتي الاستاذة خديجة القحطاني بعنوان (البحرين وباكستان 50 عاما من المحبة والتعاون) في 2022م أكد معالي الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة مستشار جلالة الملك للشؤون الدبلوماسية “أن العلاقة بين البحرين وباكستان ليست علاقة عابرة أو قائمة على المصالح فقط، بل هي علاقة راسخة، متجذرة في التاريخ، ومبنية على الثقة والاحترام المتبادل”، وقد عبّر الشيخ خالد عن فخر البحرين بهذا الارتباط، مشيرًا إلى تطلعات القيادة البحرينية في تعميق التعاون مع باكستان في ملفات الأمن والسياسة والتعليم، وأن التنسيق المشترك يعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء محور إسلامي قادر على مواجهة التحديات من موقع مستقل وواعٍ.
نبرة دبلوماسية دقيقة
إن تصريح معالي الشيخ خالد حمل نبرة دبلوماسية دقيقة، تُجسّد منهج البحرين في علاقاتها الخارجية: الاعتماد على التاريخ المشترك، وتغليب مبدأ الشراكة المستمرة على التحالفات المرحلية، كما يُظهر أن البحرين، رغم حجمها الجغرافي، تُدير علاقاتها على قاعدة التفاهم الثقافي والانفتاح المتبادل، لا على التبعية أو المحاور الضيقة.
وفي العقود الأخيرة، توسعت مجالات التعاون لتشمل التنسيق الأمني وتبادل الخبرات العسكرية، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب، إلى جانب الاتفاقيات الاقتصادية التي تسهّل حركة رؤوس الأموال والاستثمارات البينية. كما نمت برامج التبادل الأكاديمي والثقافي، وظهرت مبادرات لتطوير المناهج التعليمية المشتركة، التي تراعي التعددية الدينية والانفتاح الفكري، وتربط بين مؤسسات البلدين بنسق متوازن.
لكن العلاقة لم تكن بمنأى عن التحديات، خصوصًا في ظل تغيّرات القيادة السياسية داخل باكستان، وتغير الاصطفافات الإقليمية في الخليج، والتدخلات الدولية التي قد تؤثر في منسوب الثقة بين الدول الإسلامية. رغم ذلك، أثبتت العلاقة البحرينية الباكستانية قدرتها على تجاوز هذه المتغيرات، والاحتفاظ بقدرٍ عالٍ من الثبات والتفاهم، مدفوعة بإرث تاريخي عريق وإرادة سياسية ناضجة.
اليوم، وبعد أكثر من خمسة عقود على انطلاق هذه العلاقة، تُقدّم البحرين وباكستان نموذجًا في التكامل الإسلامي الواقعي، بعيدًا عن الشعارات، قائمًا على التعاون الفعلي، واحترام الخصوصيات، والتنسيق في القضايا الكبرى. إن استمرار هذا النموذج، وتوثيقه إعلاميًا وأكاديميًا، يُعد مهمة محورية للصحافة المعرفية، فهو يُلهم الأجيال الجديدة بأن التضامن الحقيقي يبدأ من إرادة صادقة، ويُبنى على أساس ثقافي وتاريخي لا تحركه مصالح عابرة، بل رؤية استراتيجية تؤمن بالشراكة والكرامة السياسية.
إرادة سياسية واعية
الشاهد في العلاقات المتينة بين البلدين تبادل الزيارات في اوقات قريبة زمنيا بين المسؤولين في البحرين وباكستان ليس مجرد نشاط بروتوكولي روتيني، بل يعكس عمق العلاقة بين الدولتين، ويعبّر عن إرادة سياسية واعية لتطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات هذه الزيارات تحمل عدة دلالات مهمة، أبرزها:
زيارات القادة والمسؤولين ترسل إشارات واضحة إلى الداخل والخارج بأن العلاقة مستقرة، متماسكة، وتتجه نحو مزيد من التنسيق، فهي توثّق التحالف وتعيد تأكيد الثقة المتبادلة في ملفات مثل الأمن الإقليمي، مكافحة الإرهاب، والدفاع المشترك، وكل زيارة تُعد فرصة لعقد اتفاقيات جديدة، أو لتفعيل الاتفاقيات القائمة. في حال البحرين وباكستان، غالبًا ما تُسفر الزيارات عن اتفاقيات في مجالات الدفاع، التعليم، الاقتصاد، والتبادل الثقافي والديني، فعندما يزور جلالة الملك أو سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء أو مسؤول دبلوماسي رفيع، فإن وجوده يعكس اهتمامًا شخصيًا بتعزيز العلاقة، ويساهم في بناء جسور إنسانية وثقافية بين الشعوب، وليس فقط على مستوى الحكومات.
هذه اللقاءات تتيح مراجعة المواقف من ملفات إقليمية ودولية حساسة، وتفتح المجال للتنسيق في المحافل الدولية مثل منظمة التعاون الإسلامي أو الأمم المتحدة، لكلا البلدين مصلحة في تأكيد حضورهما على الساحة الدولية، وتبادل الزيارات يعكس قدرة البلدين على إدارة علاقاتهما الخارجية بمرونة وحكمة، ببساطة، فإن هذه الزيارات ليست “زيارات مجاملة”، بل أدوات دبلوماسية فعالة لإعادة تشكيل التحالفات وتجديد الروابط، وهي مؤشر حيوي على نضج العلاقة وقدرتها على الاستمرارية والتجدد.
تعزيز التعاون في مكافحة المخدرات والجريمة المنظمة
يوم العاشر من يوليو الجاري زار مملكة البحرين وزير الداخلية ومكافحة المخدرات بجمهورية باكستان الإسلامية، السيد محسن رضا نقوي، هذه الزيارة تحمل دلالات عميقة على استمرار التنسيق الأمني بين البلدين، خصوصًا في ظل التحديات الإقليمية المتسارعة. وقد استقبله الفريق أول الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة وزير الداخلية في مراسم رسمية عكست الاحترام المتبادل، حيث ناقش الطرفان عددًا من الموضوعات الأمنية ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك تعزيز التعاون في مكافحة المخدرات والجريمة المنظمة، تطوير آليات عمل اللجنة الأمنية المشتركة، تبادل الخبرات في مواجهة التحديات الأمنية الإقليمية والدولية، كما عبّر الوزير الباكستاني عن سعادته بزيارة البحرين، وأشاد بحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، مؤكدًا حرص بلاده على توسيع مجالات التعاون الأمني مع المملكة.
هذه الزيارة تُعد امتدادًا طبيعيًا لمسار العلاقات المتينة بين البلدين، وتُظهر كيف أن الدبلوماسية الأمنية أصبحت ركيزة أساسية في بناء التحالفات الحديثة، خاصة بين الدول التي تتقاسم رؤى مشتركة في مكافحة التهديدات العابرة للحدود، لذلك فأن ما يُميز العلاقة بين المنامة وإسلام آباد لأكثر من 50عامًا هو الثقة المتبادلة وعلاقة المحبة الحقيقية والاحترام والتقدير والتعاون الصادق.