في عام 1905م رسم بابلو بيكاسو لوحته الشهيرة (الفتى والغليون (Garçon à la pipe ، في لحظة شكّلت مفترق طرق بين حزنه الطويل وبزوغ دفء داخلي خجول، لم تكن الألوان يوما مجرد اختيار جمالي لديه، بل كانت انعكاسا لمزاجه الشخصي، وحالة وجدانية تعكس ارتجاجات روحه. هكذا انقسمت تجربته بين زرقة الحداد وورديات الأمل المؤجل، كأنّ قلبه يتنقل بين جنازتين وحفلة سيرك.
كانت الفترة الزرقاء (1901–1904) بداية انكسار داخلي، أعقب انتحار صديقه الشاعر والرسّام (كارلوس كاساخيماس) في باريس، بعد علاقة حب فاشلة كان بيكاسو حينها في مطلع العشرين، محطما، تائها، يعيد تشكيل العالم من حوله بألوان باهتة وبرد بصري. لوحاته مثل “رجل عجوز يعزف الغيتار” و”أم وطفل في دار فقراء” تنبض بالعزلة، وكأنها جدران صامتة تحبس داخله البكاء، حتى في لوحته “المرأة الباكية”، لا تصرخ المرأة، بل يئنُّ القماش تحت وطأة الصمت.
كانت مدينته برشلونة آنذاك محطة حنين، لكنها لم تُسكِت وجعه فتنقّل بين باريس وبرشلونة كمن يبحث عن أطلال نفسه، ارتبط فنيًا بالناس الذين لا صوت لهم: المتشردين، المكفوفين، المحكوم عليهم بالنسيان. كأن الفن أصبح عزاءً مرئيا لألم لم يعرف كيف ينطقه.
ثم.. حين انتقل إلى مونمارتر في باريس عام 1904، بدا وكأن المدينة رممته تدريجيا انخرط في عالم البوهيميين، واختلط بالبهلوانات والمهرجين، لا كضيوف فرح بل كأرواح هشة تشبهه.. دخل حياة العارضة فرناندي أوليفييه، فاشتعلت في داخله مشاعر معقدة: حب، غيرة، حيرة. وولدت من تلك العاطفة الغامضة الفترة الوردية (1904–1906)، وهي أقل حزنا من الزرقاء، لكنها أكثر حميمية. في لوحاته مثل “عائلة من المهرجين” و”بهلوان شاب”، نشهد وجوها ساكنة بأجساد ملونة، كأنها تحاول التوازن على حبل الحياة الرفيع.
“الفتى والغليون” تبقى أيقونة هذه المرحلة: فتى صغير في سن الزهور، يجلس بثياب زاهية، يحمل غليونا أكبر من عمره، ينظر دون ابتسامة، وكأن الغليون مجرد استراحة مؤقتة من حزن لم يغادره بعد.. إنها لوحة عن التعافي المشوّش، عن لحظة عالقة بين الماضي الثقيل والمستقبل المجهول.
في كل مرحلة، نرى بيكاسو لا يرسم الناس فقط، بل يرسم نفسه فيهم. الفن التشكيلي لديه ليس بعيدا عن المسرح، فكل شخصية على القماش تؤدي دورا في حكاية روحه. في الزرقاء، كان يتأمل الألم من خلف ستار، وفي الوردية، اقترب من الضوء، وإن بخجل.
المفارقة أن تلك اللوحات لم تُقدّر ماليا في وقتها، لكنها كانت النبع الذي تفجّرت منه لاحقًا مرحلته التكعيبية، حين انغمس في الفن الإفريقي وتكوينه الرمزي (وهي المرحلة التي سنفرد لها مقالة قادمة) هكذا مهّدت الزرقة والوردية الطريق لفنان قرر أن ينحت الحداثة من حزنه الشخصي، ويصوغ الفن المعاصر من حطام قلبه.