الرئيسية / أخبار / المفكر الأنصاري عاش لأمته وتحمّل المسؤولية في تشريح أزماتها..! بقلم خالد أبوأحمد

المفكر الأنصاري عاش لأمته وتحمّل المسؤولية في تشريح أزماتها..! بقلم خالد أبوأحمد

عندما نعي الناعي وفاة الأستاذ المفكر العروبي الكبير المربي استاذ الأجيال الدكتور محمد جابر الأنصاري شعرت بحزن شديد، فالراحل العزيز ليس ككل الذين رحلوا عن عالمنا لأن رحيل العُلماء والمفكرين شأن آخر تماما، لذلك أعتقد أنه ليس رحيل شخص واحد، بل رحيل أمة بكاملها جمع ما جمع من القيم المعرفية والإنسانية الأصيلة والفكر المتقد والحرص الشديد على مستقبل البحرين و الأمة، فتألم لكل انكساراتها وعبّر عن ذلك في الكثير من كتاباته الذائعة الصيت.

قرأت عبارة كتبت قبل عقدين من الزمان أعجبتني كثيرا للكاتب (مؤمن بسيسو) يرثي فيها أحد عُلماء تركيا، وهو المهندس نجم الدين أربكان، مؤكدا في مرثيته على عظمة العُلماء بما أورثوه من فِكر وعِلم للأمة.. فقال الكاتب وكأنه يرثي الدكتور محمد جابر الانصاري:

“عندما يرحل العُظماء تنقص الأرض من أطرافها، وتنطفئ منارة كُبرى كانت ترسل إشعاعات خيرها ونورها في ربوع العالمين، عندما يرحل العُظماء تنفطر لذهابهم القلوب، لكونهم حماة الأمة وركنها الركين، وصمام أمن قيمها ومبادئها التي ترتفع بها إلى مصاف الأمم الخالدة ذات الإسهامات الكبرى في حياة البشرية”.

هذا الوصف العميق لمكانة العُلماء يُعبّر تماما عن شخصية الراحل المفكر د. محمد جابر الانصاري في كل كلمة من هذه المرثية أجده فيها تغمده الله بالرحمة والمغفرة، وجزاه الله خير الجزاء على ما قدمه من جهد فكري ومعرفي كان له تأثيره الكبير على أبناء الأمة العربية والإسلامية، كان أحد حماة الأمة حقيقة، وأن إصداراته الثقافية والفكرية التي امتدت لسبعة عقود من الزمان أضاءت ربوع العالمين بما فيها من عِلم غزير مستمد من القرآن الكريم والأدب النبوي العظيم في كل تجلياته الإيمانية والتربوية، فالفقيد لم يعش لذاته كما الآخرين فقد عاش لأمته، ولإنسانها التي تكالب عليه التحديات من كل حدب وصوب، لم نقرا للفقيد كتاب وإلا برز بشكل واضح وكبير الحرص على تطور الأمة وازدهار مجتمعاتها، وفي رقيها الاجتماعي والأكاديمي والاقتصادي والسياسي، كان حريصا كل الحرص على الأخذ بأسباب العِلم والتزود بالمعرفة، وحارب الدكتور محمد جابر الانصاري الإنكفاء على الذات بضرورة الاطلاع عن الثقافات الأخرى لما فيها من تجارب.

معركة الثقافة

في الحلقة الأولى من سلسلة مقالات (الخندق الأخير معركة الثقافة) التي نشرتها فصلية (شؤون عربية) الصادرة عن الجامعة العربية عام 2001م يقول د. محمد جابر الانصاري:

“اللحظة التاريخية الراهنة التي يمر بها العرب ليست من اللحظات التي تساعد على اتضاح الرؤية، فهي لحظة ضياع ودوار يشوبهما احباط التراجعات والغضب الناجم عن التعديات في ظل اختلال التوازنات في المنطقة لغير صالح الأمة، وفي مثل هذه اللحظات تتداخل الأمور ويختلط ما هو فرعي بما هو أساسي، بل ما هو عرضي بما هو بديهي، وتتعايش الأضداد والنقائض تعايشاً عبثياً وعدمياً كما نشهد في الحياة العربية الراهنة”.

وفي ذات المقالة يظهر الجانب المأساوي من خلال قراءة المفكر الأنصاري للواقع العربي فيقول:

“إذا كان من السهل جداً أن ينفعل الإنسان ويبكي في هذه الظروف، فمن الصعب للغاية أن يفكر بهدوء، ونتيجة لهذا الوضع فإن “العروبة” التي كانت عنواناً حياتياً لمرحلة سابقة أصبحت أول ضحية لهذا الدوار وغدت “المتهم الرئيس” حقاً أو باطلاً في كل ما وصل إليه العرب من شقاء وبؤس، ولم يعد مستغرباً ان نجد نموذج “العربي الكاره لنفسه” الذي يمثل صدى لنموذج “اليهودي الكاره لنفسه”، وإن لم يتطابق معه ذلك، الذي ضاق كإنسان بقتامة “الغيتو” فأراد الخروج منه الى رحابة المشهد الانساني.. أو هكذا يتصور اليوم العربي الكاره لنفسه باحثاً عن خلاصه، إما بهدم المعبد على رأسه ورؤوس من معه مودعا العروبة، مبيناً مثالبها، منتقلاً هو ومن يريد مخاطبته الى العراء العدمي أو اللاشيء، دون البحث في تقديم البديل وهي مدرسة ذهنية ونفسية سبقت ظهور نعاة العروبة وظهرت في الثقافة العربية والشعر العربي منذ منتصف القرن العشرين ودعوتها الصارخة التمرد من أجل التمرد، دون تقديم البديل العملي الممكن لذلك، ونحن نرى انها كحالة ذهنية تسهم في البلبلة الرهنة وإن بدت في مظهرها ثورية وتجديدية غايتها هدم الثوابت… ثم ماذا؟ لا ندري!”.

تشريح أزمات الأمة

ومن خلال الأسطر الفائتة نكتشف لأي مدى كان المفكر الانصاري مهموما بحالة الأمة، ولأي مدى تعامل مع هذه الحالة بالصدق العميق مع نفسه وتحمله المسؤولية في تشريح أزماتها تماما مثل الطبيب الجراح لا يمكن إلا أن يكون صادقا في توصيفه للمرض حتى يسهل علاجه، والمفكر الأنصاري في جل إصداراته ومحاضراته كان يقدم الوصفات الناجعة لشفاء الأمة من أوجاعها، وقد عبّر عن ذلك حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البحرين المعظم حفظه الله ورعاه عندما زار الفقيد في بيته (ديسمبر 2017)، حيث أشاد جلالته “بجهوده المتميزة، وإبداعاته وإثرائه للمكتبات الوطنية والعربية، معربا عن فخر البحرين واعتزازها بالدكتور الأنصاري، كأحد رجالاتها المخلصين الذين سطروا البدايات الأولى في تاريخ الفكر والثقافة والأدب، ودافعوا بأقلامهم وكتاباتهم بكل صدق عن الوطن وقضاياه، وساهم في تعزيز قيم الديمقراطية والإصلاح، والدفاع عن وجهة النظر الوطنية في كافة القضايا”.

إن القارئ الحصيف يدرك أن المفكر الدكتور محمد جابر الأنصاري هو الوحيد من المفكرين العرب في العصر الحديث الذي اهتم بحال الأمة، وهو أكثر الذين شخّصوا الواقع العربي والاسلامي بشكل مفهوم لا لبث فيه، ويتأكد ذلك من خلال مؤلفاته التي تربو على 20 مؤلفاً في الفكر والأدب والثقافة والسوسيولوجيا السياسية نجد جلها مرتبط بشكل أو آخر براهن الأمة وما هي عليه، من أبرزها: العالم والعرب سنة 2000، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي وصدر ضمن سلسلة عالم المعرفة، الفكر العربي وصراع الأضداد، الحساسية المغربية والثقافة المشرقية، التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق، تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية، التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام، العرب والسياسة: أين الخلل؟، رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر، انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية، إضافة إلى المئات من المقالات الفكرية والأدبية والثقافية.

إن مناسبة رحيل المفكر محمد جابر الانصاري ينبغي ألا تمر علينا مرور الكرام، فالرجل لم يبخل بوقته وعلمه وفكره من أجل البحرين ومحيطها الخليجي والعربي والإسلامي الواسع الامتداد، لابد من الوقوف حيال هذا الأمر على المستوى الشخصي والوطني والرسمي المؤسساتي، وذلك من خلال تفعيل دارة الأنصاري للفكر والثقافة بالأنشطة التي تعكس روح الأنصاري الوثابة فكرا وريادة، وذلك بإقامة مسابقات أدبية وثقافية تهدف ليس لبعث فكر الفقيد الراحل، بل تحريك البركة الفكرية والمعرفية الساكنة بما يضع أساسا جديدا للأجيال الحديثة والترغيب في الاهتمام بهذا الجانب الحيوي في تناول الموضوعات الفكرية عبر الأنشطة المختلفة، الآن في بالي مسابقة (أفضل كتاب عن فكر الانصاري) بالتعاون مع الجهات الرسمية والأهلية، والشركات الراعية تكون مخصص لفئة عمرية محددة من الـ 18-30 عاما.

هكذا الدول تكرم مفكريها..!

وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي ودارة الانصاري للفكر والثقافة يمكن ادخال نص حول سيرة الفقيد ومساهماته الفكرية والوطنية والثقافية ضمن المناهج التعليمية من الثانوي وحتى الجامعة بشكل مبسط بما يتلائم مع هذا الجيل، وهذا نهج متبع في الكثير من الدول المتقدمة التي تكرم مفكريها مثلا في جمهورية باكستان الاسلامية تدخل أعمال الشاعر والمفكر والفيلسوف محمد إقبال ضمن المناهج الأكاديمية في المراحل المختلفة، وكذلك في جمهورية الهند هناك ضمن المناهج التعليمية في عدد من المراحل الدراسية مواد عديدة للشاعر الكبير (روبندرونات طاغور)، هكذا الدول تكرم مفكريها وتخلدهم في ذاكرتها الوطنية.

لذلك أرى أنه بالتعاون مع وزارة الإعلام ودارة الانصاري للفكر والثقافة تُعاد بتلفزيون وإذاعة البحرين المحاضرات والفعاليات الأدبية التي قدمها المفكر الكبير الراحل محمد جابر الانصاري في العقود الماضية، وتبث في يوم محدد من الاسبوع، فإن وزارة الاعلام أيضا وبما لديها من امكانيات يمكنها أن تنجز فيلما وثائقيا عن حياة الفقيد واسهاماته في الحركة الفكرية والأدبية والمعرفية، ويكون هذا الفيلم من ضمن المواد المهمة التي تتوفر على نطاق واسع وخاصة في سفارات مملكة البحرين وبعثاتها الدبلوماسية، ومن الناحية الأخرى يمكن أن تسمى بعض المرافق الثقافية أو الأدبية أو الأكاديمية باسم الفقيد، خاصة جامعة الخليج العربي التي عمل بها الفقيد أستاذا لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، وعميدا لكلية الدراسات العليا.

إن الحقبة التي نعيش فيها حاليا قد طغت عليها الماديات أكثر بكثير من ذي قبل، لذلك فإن الاهتمام بترسيخ القيم المعرفية والفكرية من شأنها أن تحرك في الناس بواعث حب القراءة والتلذذ بتصفح الكُتب ومعاقرة المكتبات وزيارات دور النشر، والأماكن التي ترد الروح، خاصة وأن القراءة هي غذاء الروح.

من هنا أعزي أسرة الفقيد العزيز الدكتور محمد جابر الانصاري، كما أعزي كل محبي الفقيد وعارفي فضله، ونسأل الله تعالى ان يتغمده فقيدنا العزيز بالرحمة الواسعة وأن يسكنه فسيح الجنان مع الصديقين والشهداء..اللهم آمين