خالد ابواحمد
بعد الاعلان عن ايقاف اطلاق النار في غزة الذي بدأ فعليا أمس الخميس فالمشهد في الشرق الأوسط ما زال مثقلاً بالأسئلة الكبرى حول المستقبل، وما زالت الأزمات تتناسل من بعضها، لتُذكّر العالم بأن السلام الحقيقي لم يولد بعد، ومن هنا تتجدد الحاجة إلى المبادرة السامية التي أطلقها حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المعظم حفظه الله ورعاه، بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، وهي المبادرة التي أقرتها القمة العربية الثالثة والثلاثون في المنامة في مايو 2024، باعتبارها رؤية استراتيجية تسعى إلى بناء إطارٍ شاملٍ للسلام يتجاوز حدود الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليشمل مجمل التوترات التي تعصف بالمنطقة.
فالهدنة في غزة مهما كانت ضرورية لإنقاذ الأرواح، لا تعني أن المنطقة دخلت مرحلة الاستقرار، إذ تتداخل في المشهد قضايا متشابكة تعصف بالواقع العربي والإفريقي على السواء، في مقدمتها الأزمة السودانية التي انزلقت إلى منحى صعب هدد كيان الدولة بالفعل وأضاع امكانياتها المادية والبشرية، إن أزمة السودان تعيد رسم خرائط النفوذ في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، هذه الأزمة لم تعد شأنًا داخليًا سودانيًا، بل غدت جزءًا من معادلة الأمن الإقليمي والدولي، نظرًا لتشابك أطرافها وتنامي التدخلات الإقليمية فيها، ومن منظورٍ دبلوماسيٍ مسؤول، فإن استمرار هذا الصراع، جنبًا إلى جنب مع بؤر التوتر الأخرى، يُضعف أي إمكانية لبناء منظومة إقليمية قائمة على الاستقرار والتنمية.
في الوقت نفسه تتواصل التعقيدات في لبنان واليمن والعراق وليبيا، وتتصاعد التحركات الإقليمية غير البريئة التي تحاول استثمار الفوضى لفرض وقائع سياسية جديدة على حساب الشعوب، هذا الواقع يجعل من مبادرة الملك حمد لعقد مؤتمر دولي للسلام أكثر من ضرورة سياسية إنها اليوم واجب أخلاقي ومخرج واقعي من دوامة الحروب الصغيرة التي تتحول ببطء إلى صراعٍ شاملٍ على الوجود والمعنى في منطقتنا.
من موقعي كمراقب وراصد من البحرين، أرى أن انطلاقة مبادرة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة تنبع من إدراكٍ عميق بأن السلام في الشرق الأوسط لا يمكن تجزئته، ولا يتحقق عبر حلولٍ جزئية أو تسوياتٍ منفصلة، فالقضية الفلسطينية تظلّ المركز الرمزي للأزمة، غير أن حولها تدور دوائر أخرى لا تقل خطورة: انهيارات الدول، والحروب الأهلية، والإرهاب العابر للحدود، والفراغات الأمنية التي تملؤها الميليشيات والتنظيمات، ومن هذا الإدراك جاءت دعوة جلالته كمنظورٍ شاملٍ لإعادة بناء الثقة بين الشعوب والدول، وتأسيس نظامٍ إقليميٍ جديدٍ يقوم على الأمن الجماعي لا على الهيمنة، وعلى التنمية لا على الاستنزاف.
إنّ المؤتمر الدولي الذي دعت إليه مملكة البحرين يمثل إطارًا تأسيسيًا لسلامٍ متعدد المستويات: سياسي، وإنساني، وتنموي، وأخلاقي. وهو في جوهره امتدادٌ لفكر جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، فكرٍ رياديٍّ يؤمن بأن الدبلوماسية لا تنجح إلا إذا استندت إلى ثقافة التعايش السلمي والتسامح الإنساني، وجعلت من الحوار أساسًا لبناء عالمٍ أكثر عدلًا واستقرارًا.
إنّ ما يميز المبادرة البحرينية أنها تجمع بين البعد الإنساني والواقعية السياسية. فهي لا تنكر تعقيدات المنطقة ولا تتجاهل توازنات القوى، لكنها تُعيد توجيه البوصلة إلى الإنسان، وتُذكّر العالم بأن استمرار الحروب يهدد النظام الدولي برمّته، ويعيد إنتاج الكراهية والإرهاب والفقر، ومن هذا المنطلق، فإن دعوة الملك حمد بن عيسى آل خليفة تمثل جسرًا بين الشرق والغرب، بين الدين والسياسة، بين الماضي المثقل والجغرافيا التي تبحث عن مستقبلٍ نظيفٍ من الدماء.
أعتقد أن العالم بحاجة إلى مبادرةٍ منطقية تتناول أجندة السلام بموضوعية بحيث تناقش كل الملفات ذات العلاقة بترسيخ قيم السلام، وتفتح أفقًا للإنسان في هذه المنطقة كي يعيش بسلامٍ يستحقه، فبعد أن سكتت المدافع في غزة، يجب ألا يسكت الضمير الدولي عمّا يجري في السودان وسائر بؤر التوتر، لأن السلام في المنطقة لن يتحقق جزئيًا، ولن يُبنى على أنقاض الآخرين، بل فقط على إرادةٍ جماعية تنشد العدالة والتعايش والبناء المشترك.
وفي الخلاصة أقول أن مبادرة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة تمثل اليوم بارقة أمل في محيطٍ مضطرب، لأنها تطرح السلام كمشروعٍ إنساني شامل يعيد للمنطقة توازنها وللشعوب حقها في الأمن والكرامة، ومن هنا ندعو العالم ومؤسساته الأممية إلى الإنصات إلى صوت العقل والحكمة، وإلى تبنّي رؤيةٍ واقعية تُنهي دوامة الصراعات وتفتح أمام الإنسانية طريقًا جديدًا نحو السلام العادل والدائم.