تقرير البحرين/المنامة/ في الثامن عشر من أغسطس 2025 نشرت صحيفة Financial News London تقريرًا موسعًا حمل عنوانًا لافتًا Bahrain in talks to attract crypto firms and investment managers amid Middle East rush أي أن البحرين تجري محادثات مع شركات العملات الرقمية ومديري الأصول وسط سباق إقليمي محموم في الشرق الأوسط. وقد كشف التقرير أن مملكة البحرين دخلت في مفاوضات جادة مع أكثر من خمسين مزود خدمات مالية عالمي من بينهم شركات كبرى في مجال العملات الرقمية وإدارة الأصول وهي خطوة جديدة تؤكد توجه المملكة لتعزيز مكانتها كمركز مالي مرن ومبتكر في منطقة الخليج.
ما يلفت الانتباه أن نحو نصف هذه الشركات التي تجري البحرين مفاوضات معها تنشط في مجال التكنولوجيا المالية الحديثة FinTech ما يعكس بوضوح رؤية البحرين لاحتضان القطاعات الاستثمارية الناشئة التي تمثل اقتصاد المستقبل. فالتكنولوجيا المالية لم تعد قطاعًا هامشيًا بل باتت اليوم أحد الأعمدة الرئيسة للاقتصادات المتقدمة ومن يدخل مبكرًا إلى هذا المجال يحجز موقعًا متقدمًا في الخارطة المالية العالمية.
المزايا التنافسية للبحرين
الخطوة البحرينية ليست مجرد محاولة لجذب استثمارات جديدة بل هي بناء على منظومة مزايا تنافسية عززت من ثقة المؤسسات المالية الدولية. وأبرز هذه المزايا الإعفاء من ضريبة الدخل الشخصي وهو عنصر أساسي يجعل البحرين بيئة جاذبة للمواهب والشركات على حد سواء. كما أن المملكة تسمح بالملكية الأجنبية الكاملة الأمر الذي يعطي المستثمرين العالميين حرية أوسع في إدارة استثماراتهم دون قيود تعيق قراراتهم الاستراتيجية.
إلى جانب ذلك أثبتت البيئة التنظيمية البحرينية كفاءتها خلال السنوات الماضية حيث منحت المملكة تراخيص لشركات عالمية رائدة مثل Binance و Crypto.com وهما من أكبر منصات العملات الرقمية في العالم. دخول هذه الشركات إلى السوق البحريني منح إشارة قوية للمجتمع الاستثماري العالمي بأن المنظومة التشريعية في البحرين قادرة على استيعاب الأنشطة المالية الأكثر تعقيدًا وحداثة ما عزز مكانتها على خريطة المراكز المالية الدولية.
البحرين والأرقام الداعمة
تتلاقى هذه التحركات مع ما أكدته تقارير اقتصادية مرموقة منها تقرير شركة EY إرنست آند يونغ الذي أوضح أن البحرين تقدم ميزة تنافسية كبيرة في تكاليف الأعمال. فقد بيّن التقرير أن تشغيل مراكز التكنولوجيا المالية في البحرين أقل بنسبة تصل إلى 24% مقارنة بدول الخليج الأخرى بينما يمكن أن يصل التوفير في التكاليف الكلية بما في ذلك الرسوم والتراخيص والمساحات المكتبية والخدمات اللوجستية إلى 48%. هذه الأرقام تعني أن البحرين لا تقدم فقط بيئة قانونية وتنظيمية مناسبة بل تقدم كذلك ميزة اقتصادية ملموسة تجعلها الوجهة المفضلة للشركات الناشئة والمؤسسات المالية الكبرى على حد سواء.
وفي السياق ذاته يشير مجلس التنمية الاقتصادية في البحرين EDB إلى أن المملكة تُعد الأقل كلفة في المنطقة لتأسيس وتشغيل الشركات المالية وهو ما يجعلها خيارًا مثاليًا للشركات التي تبحث عن مركز إقليمي مرن يمكن منه الانطلاق نحو الأسواق المجاورة. هذه المعطيات تؤكد أن البحرين لم تدخل هذا السباق بلا أوراق قوة بل بنت استراتيجيتها على أساس مدروس يجمع بين المرونة التشريعية والجاذبية الاقتصادية.
لا يمكن تجاهل البعد الجغرافي في هذه المعادلة فالبحرين تقع في قلب الخليج العربي وتشكل نقطة وصل طبيعية بين الأسواق الشرقية والغربية. هذه الميزة الجغرافية تمنحها قدرة على أن تكون مركزًا ماليًا إقليميًا يخدم أسواقًا واسعة تمتد من آسيا إلى أوروبا الأمر الذي يعزز جاذبيتها كموقع استراتيجي للشركات المالية العالمية.
الأبعاد الاستراتيجية للتحرك
يرى محللون أن هذه التحركات لا تقتصر على جذب استثمارات عابرة بل تعكس نهجًا استراتيجيًا طويل المدى يرمي إلى بناء نموذج مالي رقمي جديد قادر على تعزيز مناعة الاقتصاد الوطني وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط. فالبحرين تدرك أن الاعتماد على النفط لم يعد خيارًا آمنًا وأن المستقبل يتطلب تنويعًا حقيقيًا في مصادر الدخل وأن القطاع المالي وخاصة التكنولوجيا المالية قادر على لعب دور محوري في هذا التحول.
ولعل ما يميز هذا التوجه أنه ينسجم مع أهداف رؤية البحرين الاقتصادية 2030 التي أكدت على العدالة والتنافسية والاستدامة وتضع الاستثمار في رأس المال البشري والابتكار الرقمي في قلب المشروع الوطني. فهذه المفاوضات مع الشركات العالمية تمثل ترجمة عملية لهذه الرؤية وتحولها من شعارات إلى خطوات ملموسة على أرض الواقع.
انعكاسات مباشرة على المواطن البحريني
غير أن الأهمية الكبرى لهذه الخطوة لا تقتصر على الاقتصاد الكلي بل تمتد إلى حياة المواطن البحريني نفسه. فاستقطاب شركات مالية كبرى وزيادة تدفق الاستثمارات يعني بالضرورة خلق المزيد من فرص العمل النوعية في مجالات التكنولوجيا المالية والخدمات المصرفية الرقمية وهي وظائف تتماشى مع طموحات الشباب البحريني وتفتح أمامهم آفاقًا جديدة للمسار المهني.
كما أن تطوير البنية التحتية الرقمية سيؤدي إلى تحسين جودة الخدمات المقدمة للمستهلكين من خلال تسهيل المعاملات المالية وخفض التكاليف وزيادة الخيارات المتاحة أمام الأفراد والشركات. وهذه الفوائد لا تبقى حبيسة لغة الأرقام والمؤشرات الاقتصادية بل يلمسها المواطن البحريني مباشرة في حياته اليومية.
وإلى جانب ذلك فإن هذه الاستثمارات ستسهم بشكل مباشر في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر إتاحة أدوات تمويل أكثر مرونة وخدمات مصرفية رقمية مبتكرة. هذا الدعم يعني أن رواد الأعمال البحرينيين سيجدون بيئة أكثر ملاءمة لتطوير مشاريعهم ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني ككل. كذلك فإن تطوير خدمات الدفع الإلكتروني سيمنح المواطنين والمقيمين قدرة أكبر على إجراء المعاملات المالية بسرعة وكفاءة ويعزز من انتشار الاقتصاد الرقمي المحلي ما يجعل البحرين في مصاف الدول الأكثر تطورًا في هذا المجال.
البحرين والمشهد الإقليمي
على المستوى الإقليمي تقدم البحرين عبر هذه الخطوة نموذجًا مغايرًا لمفهوم المراكز المالية التقليدية. فهي لا تكتفي بالاعتماد على الخدمات المصرفية والاستثمارية الكلاسيكية بل تتجه إلى جذب قطاعات ناشئة مثل العملات المشفرة والتقنيات المالية المتقدمة. وهذا التوجه يضعها في موقع ريادي في سباق التحولات الاقتصادية الذي تشهده المنطقة.
ففي الوقت الذي تتنافس فيه مراكز مالية كبرى مثل دبي والرياض والدوحة على استقطاب الشركات المالية العالمية تسعى البحرين إلى تمييز نفسها عبر تقديم بيئة أكثر مرونة وأقل تكلفة مع تركيز خاص على قطاعات المستقبل. وهذا يمنحها فرصة حقيقية لتكون الخيار المفضل للشركات التي تبحث عن بيئة مستقرة ومنفتحة لدخول أسواق الشرق الأوسط.
قراءة في دلالات التحرك
إن المفاوضات الجارية مع هذه الشركات العالمية مدعومة بالبيئة التنظيمية والضريبية التنافسية والتقارير الدولية التي تؤكد تفوق البحرين في خفض تكاليف الأعمال تمثل نقلة نوعية في مسيرة المملكة نحو تعزيز مكانتها كمركز مالي عالمي.
فالبحرين لا تكتفي بأن تكون جزءًا من المشهد المالي الخليجي بل تسعى لتكون شريكًا فاعلًا في صياغة مستقبل الاقتصاد الرقمي العالمي. وهي بذلك لا تتحرك فقط لحماية اقتصادها الوطني بل لتمنح المواطن البحريني فرصة ليكون في قلب التحولات الكبرى التي يشهدها العالم.
إنها خطوة تعكس وعي القيادة البحرينية بأهمية استباق التغيرات الاقتصادية العالمية واستثمار موقع البحرين الجغرافي ومزاياها التنافسية لبناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة. وهي في الوقت نفسه رسالة واضحة بأن البحرين ليست مجرد متفرج على التحولات المالية التي يشهدها العالم بل لاعب فاعل يسعى إلى أن يكون جزءًا من صناعة هذا المستقبل.