منذ قديم الزمان، كان الإغريق يروون حكاية مرحة عن طفل صغير رأى حصانا أبيض يركض بين الغيوم، لم يكن حصانًا عاديًا، فقد خرج من قلب السماء وهو يحمل جناحين عظيمين يلمعان تحت أشعة الشمس، ركض الطفل إلى القرية وهو يصرخ: “لقد رأيت حصانًا يطير!”، فضحك الجميع في البداية، لكنهم ما لبثوا أن جعلوا هذه الحكاية رمزا للأمل والحرية، حتى صار (بيغاسوس) أحد أعظم أيقونات الأساطير اليونانية، يربط الأرض بالسماء والإنسان بحلم المجد و القوة والتقديس.
من هذه الشرارة الخيالية، بدأ الفن يلاحق صورة الحصان الطائر، متنقّلا بين القارات، ففي إفريقيا حملت بعض الأساطير الشفهية فكرة الحصان المجنّح كرمز للقوة والرياح، وقد تجسّد في حكاية (أمبالي) بغرب إفريقيا حيث كان يُعتقد أنه يهبط من الغيوم ليحمل معه رياح التغيير، بقيت في المخيلة الجماعية تُلهب الخيال الشعبي حتى اليوم.
أما في آسيا فقد احتل الحصان المجنّح مكانة خاصة في الفنون القديمة، من جدران المعابد حيث قدس، إلى المنسوجات الفارسية وهناك وُجدت تصاوير لهذه الكائنات الخيالية نصفها خيول ونصفها طيور، وإن لم تحمل اسم بيغاسوس تحديدا، وتُظهر بعض القطع المعروضة في متاحف إسطنبول الأثرية ارتباط الخيال الشرقي بالرموز السماوية، وهو ما جعل الفن الأسطوري يزدهر ليصل الى الحكايات الشعرية والملاحم القديمة البطولية.
وعند الوصول إلى أوروبا، تبرز اللحظة الذهبية للحصان المجنّح ففي متحف قرطبة الأثري بإسبانيا، تُعرض فسيفساء رائعة من ( القرن الثاني الميلادي) تُظهر (بيغاسوس) وسط زخارف دقيقة، وكأن الفنان أراد أن يخلّد لحظة التحليق الأبدي، كما نجد في مدينة (نيم) الفرنسية لوحة فسيفسائية أخرى تُجسّد (بليروفون) وهو يمتطي بيغاسوس ليقتل الوحش (الكيميرا)، وهي قطعة تكشف براعة الفنانين الرومان في تصوير الحركة والصراع الأسطوري. وفي أنطاكية، تركيا الحالية، اكتُشفت فسيفساء ثانية لبيغاسوس محاطا بالمسلات، ما يعكس مكانته المقدسة في الثقافة الرومانية التي امتدت عبر الشرق والغرب.
اليوم لا تزال هذه الأعمال حاضرة في صالات العرض والمتاحف العالمية، في متحف (اللوفر) بباريس، يظهر بيغاسوس في منحوتات وزخارف معمارية رومانية، وفي معرض (المتروبوليتان) بنيويورك، نجد قطعا فنية تستحضر رمزيته، بينما تعرض (غاليريا أوفيتسي) في فلورنسا لوحات لرسامين نهضويين مثل بييرو دي كوزيمو الذين أعادوا قراءة الأسطورة بأسلوبهم الخاص، هذه الصالات حولت الحصان المجنّح من مجرد أسطورة إلى لغة بصرية مشتركة تعبر القارات والأزمنة.
من الحكاية المرحة التي أطلقها طفل يوناني إلى الفسيفساء الرومانية الفخمة، ومن الأساطير الإفريقية إلى صالات العرض العالمية، ظل الحصان الطائر رمزا خالدا تنقل قصته بين الثقافات، إنه ابن السماء، يذكّرنا بأن الخيال لا يظل حبيس القصص، بل يتحوّل إلى فن يملأ المعابد والقصور والمتاحف، ويعانق كل الأجيال بفكرة واحدة: أن الحلم يمكنه أن يرفرف بجناحين ويصبح خيالات يجسدها الفنانيين للأبد.