تقرير البحرين/المنامة/ حين يُكتب تاريخ العمل الاجتماعي والإنساني في مملكة البحرين، لا يمكن تجاوز اسم جمعية رعاية الطفل والأمومة التي تأسست عام 1953م لتكون النواة الأولى للعمل التطوعي المنظم في البلاد، ولتسطر تجربة فريدة امتدت على أكثر من سبعة عقود. هذه الجمعية لم تكن مجرد مبادرة نسائية محدودة، بل شكلت علامة فارقة في مسيرة المجتمع البحريني، حيث اقترنت بنهضة المرأة البحرينية وانخراطها في التعليم والعمل والخدمة العامة.
تعود إرهاصات التأسيس إلى بدايات الخمسينيات حين اجتمعت مجموعة من السيدات البحرينيات ممن حصلن على قدر من التعليم والثقافة، وقررن أن يسهمن في دعم الفقراء وتوعية النساء، مستلهمات تجارب مشابهة في المنطقة العربية. ورغم أن أول نادٍ نسائي تم تأسيسه في تلك الفترة لم يعمّر سوى ثلاثة أشهر بفعل معارضة اجتماعية ودينية، إلا أن التجربة غرست في قلوب المؤسِّسات إصرارًا على الاستمرار.
في عام 1953، تحولت الفكرة إلى واقع بتأسيس جمعية رعاية الطفل والأمومة، لتصبح أول جمعية من نوعها في البحرين، ولتضع على عاتقها مهمة خدمة المرأة والطفل، عبر مبادرات تعليمية وصحية وثقافية متنوعة.
المؤسسون والقيادات النسائية
برزت في مسيرة الجمعية أسماء نسائية كان لها دور محوري في التأسيس والتوجيه، مثل:
- الشيخة نيلة بنت خالد آل خليفة، صاحبة الفكرة الأولى في إنشاء نادٍ نسائي.
- الشيخة لولوة بنت محمد آل خليفة، الشيخة نورة بنت عبدالله بن عيسى آل خليفة، الشيخة موزة بنت محمد بن عيسى آل خليفة ، اللواتي شاركن بفاعلية في تأسيس الجمعية.
- سيدات رائدات مثل عائشة يتيم، وفيقة ناير، سلوى العمران، حياة عبدالرحمن القصيبي، ومحفوظة الزياني، وغيرهن كثيرات ممن حملن على عاتقهن العمل التطوعي رغم التحديات.
ومع مرور الوقت، تعاقبت على قيادة الجمعية شخصيات بارزة تركت بصمتها، مثل الشيخة لولوة بنت محمد آل خليفة التي تولت الرئاسة لسنوات طويلة، وأسهمت في توسيع نطاق عمل الجمعية وتثبيت مكانتها.
لم تكن مسيرة الجمعية مفروشة بالورود. فمنذ بدايتها، واجهت صعوبات مالية ومجتمعية، بل وحتى عراقيل رسمية في بعض المراحل. ومع ذلك، فإن إصرار المؤسسين والدعم المجتمعي الواسع منح الجمعية قدرة على تجاوز هذه العقبات، بل وتحويلها إلى فرص لبناء خبرة تراكمية في العمل الاجتماعي.
الإشهار الرسمي والانطلاقة الكبرى
بعد ست سنوات من التأسيس، تم إشهار الجمعية رسميًا عام 1960م بمرسوم من حكومة البحرين. ومنذ ذلك التاريخ، بدأت الجمعية مرحلة جديدة من العمل المؤسسي المنظم، وصاغت أهدافًا واضحة، أبرزها:
- رعاية الأمهات ورفع مستواهن المعيشي والثقافي.
- الاهتمام بالطفولة المبكرة والتعليم ما قبل المدرسي.
- مساعدة الفقراء والمحتاجين محليًا وعربيًا.
- دعم المرأة البحرينية لتصبح عنصرًا فاعلًا في التنمية.
مبادرات رائدة
- رياض الأطفال والحضانات
كانت الجمعية السباقة إلى إنشاء أول روضة أهلية في البحرين عام 1965، تحت اسم روضة دار الحضانة، لتوفر بيئة تعليمية للأطفال وتساعد المرأة العاملة على الموازنة بين الأسرة والعمل. ومع التوسع الكبير، بلغ عدد الفصول في تلك الروضة 11 فصلًا بحلول 1980م.
- معهد الأمل للأطفال المعوقين
عام 1982، افتتحت الجمعية معهد الأمل ليكون أول مؤسسة متخصصة في رعاية الأطفال ذوي الإعاقة في البحرين، مقدمة خدمات تعليمية وصحية وترفيهية، ومهيئة كوادر متخصصة في التربية الخاصة.
- مركز الرعاية الثقافي
في 1987، أسست الجمعية مركز الرعاية الثقافي في المحرق، كأول مكتبة متخصصة للأطفال تديرها جمعية أهلية. المركز شكّل بيئة تربوية وتعليمية شجعت الأطفال على القراءة والاطلاع وتنمية المواهب.
- مركز الصناعات الورقية
عام 1990، دشنت الجمعية مشروعًا فريدًا لصناعة الورق من سعف النخيل، مساهمةً في التنمية الاقتصادية وتوفير فرص عمل للفتيات، ومقدمةً نموذجًا للاستفادة من الموارد المحلية.
- مركز معلومات المرأة والطفل
في 1995، تحقق حلم آخر بتأسيس مركز معلومات المرأة والطفل، ليكون شبكة متخصصة تجمع البيانات والإصدارات المتعلقة بالمرأة والطفولة في البحرين والخليج، ومصدرًا علميًا للباحثين وصناع القرار.
لم يقتصر نشاط الجمعية على البحرين، بل امتد إلى العالم العربي. فقد جمعت التبرعات لدعم مصر في حرب 1956، وساهمت في دعم القضية الفلسطينية عبر مبادرات مختلفة، وشاركت في حملات إغاثة للشعوب المتضررة من الكوارث مثل لبنان والمغرب واليمن. بذلك، تجاوز عطاؤها حدود الجغرافيا ليعبر عن روح العروبة والتضامن الإنساني.
حضور في المحافل الدولية
شاركت الجمعية في مؤتمرات وندوات عربية ودولية عديدة، مثل مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة في كوبنهاغن (1985) وبكين (1995)، واجتماعات الاتحاد النسائي العربي. هذا الحضور جعلها واجهة مشرفة للمرأة البحرينية على الساحة العالمية، ورسّخ مكانة البحرين كدولة سباقة في دعم المرأة.
لم تتوقف جمعية رعاية الطفل والأمومة عند حدود ما حققته في الماضي، بل واصلت مسيرتها الإنسانية في السنوات الأخيرة بروح متجددة. فقد بدأت عملها في مجال العمل الإنساني منذ أكثر من سبعين عامًا، ودأبت على تقديم الدعم في مختلف مجالاته، مستهدفة الأسر المتعففة من خلال الدعم المادي وتوفير الغذاء والعلاج والأثاث، بل وحتى ترميم المنازل. كما أولت اهتمامًا خاصًا بالأيتام والأرامل والمطلقات، في إطار رؤيتها الشاملة لخدمة الفئات الأكثر حاجة في المجتمع.
ولم يقتصر عطاؤها على الداخل البحريني، بل امتد إلى الخارج في أوقات الكوارث والمحن، مثل دعمها لتركيا وسوريا عند وقوع الزلازل، وتقديم المساندة للبنان وغزة بالتعاون مع المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية. ولتحقيق هذه المبادرات نظمت الجمعية فعاليات خيرية متنوعة مثل أسواق حواء وطبق الخير وسوق السفارات، مع بناء شراكات استراتيجية مع مؤسسات حكومية وأهلية.
وفي سياق التنمية المستدامة، ركزت الجمعية على دعم وتمويل الأسر المنتجة عبر مشروع المايكروستارت الذي يسعى لتحفيز قدرات المرأة المنتجة وتمكينها اقتصاديًا. كما استمرت في الاهتمام بالطفولة عبر إنشاء الحضانات ورياض الأطفال، وإطلاق صندوق الطالب لدعم أبناء الأسر المتعففة في دراستهم الجامعية.
أما في مجال ذوي الاحتياجات الخاصة، فقد أنشأت الجمعية معهد الأمل كأول معهد في البحرين يكرس خدماته التعليمية والتدريبية لهذه الفئة، مانحًا إياهم فرصة للاندماج والإنتاج. وقد حصدت الجمعية اعترافًا دوليًا وإقليميًا بجهودها، حيث نالت جائزة خالد العيسى الصالح للتميز في العمل الخيري من دولة الكويت، إضافة إلى شهادة المعيار الدولي للمسؤولية المجتمعية الإيزو 26000.
إن هذه الإنجازات الحديثة تعكس حرص الجمعية على التطوير المستمر لبرامجها بما يتلاءم مع احتياجات المجتمع المتغيرة، وسعيها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما يترك أثرًا إيجابيًا ومستدامًا في حياة المجتمع البحريني، بل وفي المجتمعات الأخرى أيضًا.
إن تجربة جمعية رعاية الطفل والأمومة في البحرين ليست مجرد قصة جمعية أهلية، بل هي ملحمة اجتماعية وثقافية واقتصادية أسهمت في تشكيل وجه البحرين الحديث. لقد أثبتت أن العمل التطوعي، إذا ما تأسس على رؤية واضحة وإرادة صلبة، يمكن أن يصنع تحولات عميقة تتجاوز الزمن. واليوم، وبعد أكثر من سبعين عامًا، تظل الجمعية شاهدًا حيًا على قدرة المرأة البحرينية على الريادة والعطاء، ورمزًا لتاريخ اجتماعي تليد لا ينضب