الرئيسية / أخبار / حينما تصافحت القلوب !!.. بقلم- عبدالله عبدالسلام النور

حينما تصافحت القلوب !!.. بقلم- عبدالله عبدالسلام النور

من ضباب التصورات القديمة، ومن تحت رماد التاريخ الملتبس، بزغ فجر جديد لعلاقةٍ أنهكها الجفاء، وأرهقتها الأحكام المسبقة، حتى أيقظتها المحنة الكبرى، فصارت أنقى مما ظن الحالمون، وأعمق مما توهّم الحذرون.

لم تكن العلاقات بين الشعبين السوداني والمصري – في زمانٍ ليس ببعيد – على ما يُرجى من دفء الجوار ولا نُبل الإخاء، رغم أن النيل يشق أرضيهما كما يشق الوريد قلب الجسد الواحد، فقد كانت العلاقة – على المستوى الشعبي – مشوبةً بالحذر، مثقلةً بترسّبات ماضٍ لم يُصفَّ، ومثخنة بجراح الصور النمطية التي توارثتها الألسن كما تتوارث الأسرار.

وسرعان ما كانت تشتعل الخلافات لأهون الأسباب، وتندلع معارك “الكيبوردات” في ساحات التواصل الاجتماعي، لا لنقاش قضية مصيرية، بل أحيانًا لتصريح إعلاميٍ طائش، أو لقطة من فيلم قديم، أو حتى تغريدة لم تمر على عقول ناضجة.

خدوش الذاكرة… وجرح الصورة

كم هو موجعٌ أن تُظلَم قبل أن تُعرَف… أن تُختزل في مشهد، أو تسجن في نكتة، أو تُعلّق على حائط الذاكرة ككاريكاتير مشوّه… لا كإنسان له نبضٌ واسمٌ وظلٌّ وحنين، ففي لاوعي كثيرٍ من السودانيين، علقت صورٌ هجينة وحقد فى قلوب كثير من السودانين، زرعتها أفلام الأبيض والأسود، حيث كان السوداني يظهر فيها خادمًا لا بطلاً، بوابًا لا إنسانًا، ظلًّا على جدار الحكاية لا في صلبها، يُستدعى ليوزّع ضحكًا لا كرامة، وليكون “إفيهًا” لا رسالة، هامشًا لا صفحة، حضورًا ساخرًا لا يحظى بالحب ولا حتى بالاحترام، وإن كنا ندرك أن تلك الصور لا تُمثّل حقيقة المصريين، إلا أن سُمّها تسلّل كالدخان، لا يُرى لكنه يُخنق… صنع بين القلوب مسافةً رمادية، لا تُقاس بالأمتار، بل تُحَسّ في الحناجر والعيون.

وكذلك، في خيال كثير من المصريين، ظل السودان مجرد مساحة صفراء في كتاب الجغرافيا: صحراء قاحلة، جمال تترنح في وهج الرمال، نيل طويل، غابة موحشة، حيوانات مفترسة… دون أن تُروى لهم حكاية الإنسان، لم يقل لهم أحد إن فى السودان أدبًا يُكتَب بالحزن الجميل، وشعراء، ومفكرين، لم يخبرهم أحد أن تحت القماش الأبيض والعمامة السودانية عقلًا يضيء كالفجر في عتمة اليأس، وروحًا تشبه أرواحهم ، لم يخبرهم أحد عن الجامعات التي تخرّج الأطباء، ولا عن المسارح التي تصفق للفكر، ولا عن أهرامات من قدم التاريخ ، لم يقل لهم أحد إن تحت الجلد الداكن قلبًا شفافًا يضيء بالصدق والنقاء، وإن في طيبة السوداني ما يجعل الأرض تضيء خجلًا من نقاوتها.  فهم لم يُروا السودان الحقيقى كما هو بل كما أراد له المخرج أن يكون.

العيون السجينة

وفي الضفة الأخرى من الجهل… كان السوداني يرى المصري قبل أن تلتقي القلوب، فلقد كانت العيون سجينة الشاشة والافلام المصرية. فاستوطنت فى عقول كثير من السودانين صورةٌ مسمومة للرجل المصري، لا من لقاءٍ ولا حوار، بل من مَشاهد صنعتها كاميرات الافلام التى تبحث عن الإثارة لا الحقيقة، فقد صُوِّر المصري كحاوٍ بارع، يبتسم ليغدر، يتحايل ليأخذ، يُضحكك ليُسقِطك، يحلف ليكذب، صوّرته الأفلام بائعًا يغشّ الميزان، وسائقًا يسرق العداد، وتاجرًا يتقن فن المكيدة، حتى ابتسامته قيل عنها: “يُخفي سُمًّا”، وصمته: “يُخفي مكيدة”.لم تكن تلك صورة مصر الحقيقة… بل صورة مشوّهة وُلدت في غرف التحرير، لا في شوارع القاهرة، ولا فى ازقات شبرا، ولا في حواري الإسكندرية،  ولا فى احياء الاسماعيلية، ولا في بيوت المصرين الناس الطيبين الذين يفتحون بيوتهم قبل قلوبهم..

حين شوّهتنا الشاشات… وغيّرتنا الحياة

وهكذا، عاش الطرفان في جهلٍ ناعم، لا يحمل البنادق… لكنه يطعن من الداخل، لم يكن أحدهما عدوًا للآخر، بل كانا ضحيتين لصورةٍ زائفة، غرسها الإعلام، وسقاها البعد، وربّاها التكرار، حتى كبرت وصارت بين القلبين جدارًا وهمياً  بلا أبواب.

“وكم من ظلٍّ لا يدلّ على نور… وكم من صورة لا تُشبه حقيقتها…”

الحرب… حين فتحت القلوب ما أُغلقت من سنين ثم جاءت الحرب، كقدرٍ مرّ، لكنها حملت في طيّاتها بذرة أمل… حين ضاقت الأرض باهلنا السودانين، كانت مصر أول من وسّع صدره، ولم تسأل عن لون الجواز، ولا عن المذهب ولا العرق… بل فتحت الأبواب فى الاول ، وابتسمت كما يبتسم الشقيق حين يعود أخوه بعد غياب.

“وفي المحنة، لا تُختبر السياسات… بل تُختبر المعادن، وتتكشف الجواهر.”

الاندماج الصادق… حين تكلّم القلب .. تغيّرت الصورة القديمة؟

لم يكن خروج السودانيين من ديارهم سفرًا، بل نزيفًا من شريان الوطن… لم يحملوا أمتعة بل حملوا أحزانًا، وبدل الجوازات حملوا دعاء الأمهات، خرجوا لا لأنهم أرادوا الرحيل، بل لأن النار أكلت الحقول والبيوت، والرصاص لم يفرّق بين شيخ وصبي، بين محراب ومقعد دراسة. وعندما أغلقت الأرض أبوابها، فتحت مصر قلبها، لا كبوابة عبور بل كأم احتضنت أبناءها العائدين من موت معلّق. لم تُنصب الخيام بل فتحت البيوت، لم يُنادَ عليهم كلاجئين بل استُقبلوا كأقربين، في القرى والمدن، في الأزقّة والأسواق، لم يُعزلوا خلف الأسوار بل دُعوا إلى موائد الإفطار والسمر، وتلاقت الأرواح قبل الأجساد، وذاب ما بينهما من جليد صُنعته الشاشات وحجبته المسافات، وتكشفت الحقيقة كما تنقشع سحابة الصيف… السوداني رأى في المصري قلبًا كالنيل: واسعًا، دافئًا، لا يجفّ؛ رأى من يسأل عن جاره قبل أن يعرف اسمه، ومن يُعطيه لقمة دافئة قبل أن يسأله عن بلده، رأى كرمًا يُسكب كما يُسكب الماء على العطشان، ورأى ابتسامة تسبق السؤال وضمادًا يسبق الجرح، وأدرك أن ما غاب عن الإعلام لم يغب عن القلوب.

وفي المقابل، رأى المصري في السوداني عندما عاشره إنسانًا لا يُتقن التمثيل في الطيبة، ولا يتصنّع الوفاء، رأى صدقًا إذا نطق، وحياءً إذا نظر، ونخوةً إذا وقف، رأى رجلًا يسند غيره ولو بعصاه، ويُعطي من فقره، ويصبر صبر النخل في العواصف، لا يعلو صوته، ولا يذلّ خصمه، رأى في السوداني مرآةً لنقاءٍ نادر، وصفاء لا يُرى إلا في من تربّى على طمي النيل وماء الوضوء، وإذا لم تكن نقيًا فلن ترى نقاءه. وهكذا من رحم المحنة وركام الحرب، وُلِد حُبّ جديد لم تصنعه الدبلوماسية بل نسجته الأوجاع، سقطت الصور المشوهة، وانكشفت الأرواح على حقيقتها، وصار المصري يقول: هذا السوداني أنا، وصار السوداني يقول: هذا المصري وطني الثاني، وانتصرت المحبة على الدعاية، وغلب القلب ما شوّهته المسافات.

من رماد الحرب… وُلد الودّ

وإن أردنا تلخيص هذه المعجزة في آية: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾

وإن جعلناها حكمة فهي:  الشدائد تُظهر الذهب من بين التراب

وإن جعلناها شعرًا فهي: وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ… فهو المرادُ وعِشْ به في هناءِ

لم يكن اللقاء بين الشعبين لحظة طارئة، بل وعدًا تأخر قرنًا من الزمان وما أفسده الإعلام أصلحته العِشرة.

فسلامٌ على مصر التي فتحت قلبها وسلامٌ على السودان الذي أعاد للحب وجهه الحقيقي.

من رماد الحرب… وُلد الودّ

نعم، الحرب تُدمي… لكنها أيضًا تُعرّي الزيف، وتُعرّف الناس ببعضهم من جديد، وقد رأى السوداني في المصري ما لم تره الشاشة، ورأى المصري في السوداني ما لم تخبره به الخريطة.

فان من محاسن ومكاسب الحرب حين اجتاحت السودان، لم تكتفِ بتكسير البيوت، بل كسرت الصور المغلوطة، وحطّمت الأوهام، أسقطت الأقنعة،واختلطت الأرواح، وتلاقَت الوجوه، وسقطت كل الظلال التي كانت تحجب النور الحقيقي. وعندها فقط… عَرَف الطرفان بعضهما كما تُعرف الأرواح لا كما تُرسم الصور.

رسالة شكر من قلب السودان… إلى قلب مصر

يا مصر… يا أم الدنيا بحق، بل يا أمّ الشدّة والضيق والركام، يا صدرًا رحبًا حين ضاقت علينا الدنيا بما رحُبت، يا من لم تسألي من أين أتينا، بل فتحتِ ذراعيكِ قبل أن تُفتح المطارات، وقلتِ لنا بلسان المحبة: “أنتم منّا ونحن منكم، فادخلوا بسلامٍ آمنين.”

شكرًا… شكرًا لا تفيه الكلمات ولا تسعه دفاتر الشكر، شكرًا من عمق كل قلب سوداني عرفكِ في المحنة أمًّا، لا جارة، وشقيقة، لا دولة.

شكرًا لكل أمٍّ مصرية أطعمت طفلًا سودانيًا ولم تسأله عن اسمه، بل مسحت على رأسه كأنه قطعة من روحها، وقالت: “ده ابني زي ولادي.”

شكرًا لكل طبيب داوى جراح الغريب، فلم ينظر إلى جنسيته، بل إلى ألمه، ضمّده بيدٍ من رحمة، ونظر إليه بعينٍ من دمعة، وكأنه شقيقه الذي غاب وعاد مكلومًا.

شكرًا لكل معلمٍ فتح قلبه قبل فصله، فاحتوى أبناءنا كأنهم تلاميذه من دهر، وأعاد لهم معنى المدرسة حين تاهت عنهم المدارس.

شكرًا لكل مسؤولٍ تجاوز البيروقراطية وارتدى عباءة الإنسان قبل أن يرتدي بدلته، فمدّ يده لمنكوب لا يملك شيئًا سوى اسمه.

وشكرًا بحجم السماء لحكومة مصر، التي لم تكتفِ بالشجب ولم توارِ الأزمة خلف التصريحات، بل فتحت المطارات، وأرسلت البعثات، ومدّت يدها قبل أن تُمدّ لها، فكانت وفعلها أبلغ من بيان.

وإن نسينا من خاننا، فإننا – والله – لن ننسى من آوانا، لن ننسى من قال لنا: “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”، لن ننسى الدموع التي مسحتها الأيدي المصرية، ولا الخبز الذي اقتُسم رغم ضيق الحال، لن ننسى أن النيل حين اشتدّ عليه الوجع، وجد حضنه الآخر… فيكِ يا مصر.

نداء لوحدة لا تعرف الانقسام

إنه لنداءٌ يدمِي القلوب، لكنه صادقٌ من الأعماق، فالله قد جمعكم بالنهر،وزيِّن أرضكم بالخيرات وربط بين قلوبكم يوم اشتدت المحنة…فلا تجعلوها لحظة عابرة، بل اجعلوها بدايةوحدة لا تعترف بحدود ، بل تعترف بإنسان يُحبّ أخاه الإنسان.

السودان… أرض الذهب والزرع والماء ، ومصر… وطن العلم والعزم والقيادة ، فليتحد المورد بالعقل ، واليد بالفكرة ،والمصير بالنية الصادقة… حينها، لن تقف أمام هذا الجسد العربي الواحد أي قوة في الأرض.

وإذا الشعبان يومًا أرادا الحياة…فلا بد أن يُشرق الفجر على ضفاف النيلين.

وكل عامٍ وأنتم بخير، وشعبا مصر والسودان في وحدةٍ واستقرار، وفي نعمة الأمن والأمان والسلام الدائم.

08 يونيو 2025م

نقلا من صفحة الكاتب على (الفيس بوك)