في زاوية هادئة من كنيسة (سانتا ماريا ديلي غراتسيه) في ميلانو، تهمس الجدران بحكاية لوحة هزّت العالم دون أن تنطق بكلمة إنها (العشاء الأخير) تحفة ليوناردو دا فينشي، الرسام الذي لم يكن مجرد فنان، بل كان عبقري عصره، سابقا زمانه بخطوات لا تُقاس بالسنوات بل بالقرون.
ولد ليوناردو عام 1452 في بلدة (فينشي) ومنها اشتُق اسمه، لم يكن رساما فقط، بل كان مهندسا، ونحاتا، وعالِم تشريح، ومخترعا وضع تصاميم للطائرات والغواصات قبل اختراعها بقرون. في زمن كانت فيه الكنيسة تسيطر على كل تفاصيل الحياة، كان ليوناردو يحاول أن يرى ما وراء المسموح، ويطرح أسئلة لا تُقال بصوتٍ عالٍ. وكانت (العشاء الأخير) إحدى تلك الأسئلة المرسومة.
عُهد إليه برسم اللوحة عام 1495 من قبل دوق ميلانو، لودوفيكو سفورزا، فقرر أن يُخلّد لحظة واحدة: اللحظة التي يعلن فيها المسيح لتلاميذه أن أحدهم سيخونه، لكن بدلا من مشهد هادئ تقليدي، رسم عاصفة من المشاعر، وجوه مصدومة، أيدٍ تتحرك، وكأن الصوت يتردد رغم الصمت.
لم يستخدم (الفريسكو) لأنه كان يريد وقتا أطول للتفاصيل، بل اخترع مزيجا من الزيوت والتمبرا، وهي مغامرة كادت تكلّفه اللوحة، الرطوبة بدأت تلتهم العمل بعد سنوات قليلة، وكأن الجدران ترفض هذا الكم من العبقرية دفعة واحدة.
في الخلفية، كانت الكنيسة تفرض رقابتها على كل فن يُنتج، ترسم الحدود بين المسموح والمحرّم، ولكن ليوناردو، بشعره الطويل ودفاتره السرية، كان يحفر مجرى خاصا به، متحديا السلطة الفنية والروحية، كان منافسوه كُثر، أبرزهم ميكيلانجيلو، النحات الشرس الذي كان يصفه دا فينشي بأنه “عضلي بلا عقل”، بينما كان ميكيلانجيلو يراه “فنانًا لم ينهِ شيئًا أبدًا”، صراع عباقرة، لكن كلٌّ منهما ترك بصمة خالدة.
(العشاء الأخير) لم تكن مجرد لوحة… كانت مشهدا مسرحيا مشحونا، محمّلًا بالرموز، يُقال إن مريم المجدلية تظهر بجانب المسيح بدلًا من يوحنا، وأن التكوين يُخفي مقطوعة موسيقية، وأن وضع الأيادي والأكواب يحمل رسائل خفية. هل كان ليوناردو يهمس للعصور القادمة بلغته الخاصة..؟.
اللوحة نُسفت بالقنابل، مُسحت بالرطوبة، نُسيت ثم أُعيد اكتشافها، لكنها بقيت حيّة. كل من يقف أمامها يشعر أنه ليس أمام جدار، بل أمام بوابة سرّية لعالم عبقري، تحدّى الزمن والسلطة والخراب، وترك لنا وجبة أخيرة لا نشبع من تأملها أبدا.