في عام 1905، وبينما كانت الهند تغلي تحت الاستعمار البريطاني، قرر فنان شاب يُدعى أبينندرناث تاغور أن يحمل فرشاته ويعلن الثورة، ولكن بطريقته الخاصة، لم يخرج في مظاهرة، ولم يكتب منشوراً سياسياً، بل رسم لوحة. بسيطة ؟ لا! هذه اللوحة غيّرت وجه الفن الهندي، وأطلقت أول صرخة فنية للاستقلال، واسمها: (بهارات ماتا)، أي (أم الهند).
تخيلوا فتاة شابة، ترتدي ثوباً برتقالياً كألسنة شمس الفجر، تقف بثبات وجلال، تحمل في يديها كتاباً، مِسبحة، كومة من القطن، وبعض الأرز. ليست أميرة ديزني، بل تجسيد رمزي للهند نفسها: حاملة للمعرفة، الروحانية، الاقتصاد، والغذاء. هل هذه لوحة أم برنامج انتخابي؟.
الطريف أن تاغور لم يكن يخطط أصلاً لرسم “أم الوطن”، بل كانت مجرّد فتاة بأربعة أذرع، مستوحاة من الآلهة الهندوسية لكن صديقه الشاعر قال له: “هذه ليست مجرد امرأة، هذه الهند!” وهكذا، دخلت اللوحة التاريخ، رغم أنها لم تدخل متحف اللوفر.
الفنانون الهنود في تلك الفترة كانوا يتبعون النمط الغربي، يرسمون حسب مقاييس أوروبا الكلاسيكية، أما تاغور، فقد قلب الطاولة، ورجع إلى الجذور: الخطوط الشرقية، الألوان الرمزية، والبساطة التي تخبّئ وراءها قصة أمة. في نفس الفترة، كان بيكاسو يرسم بعيون في غير أماكنها، بينما تاغور يرسم وطناً بعين القلب.
وقد أثّرت هذه اللوحة على فناني مدرسة البنغال، وأعادت للفن الهندي روحه الثقافية، تماماً كما فعل هوكني في بريطانيا حين تخلّى عن الواقعية من أجل الألوان الشرسة، أما تاغور، فقد رسم بفرشاة مغموسة في الحنين والحلم والمقاومة.
لكن دعونا لا ننسى، أن تاغور لم يكن وحده في هذا المشهد. كان هناك فنانون هنود آخرون يحملون ذات الشعلة، مثل نانالال بوس، ورابندرانات تاغور، وجمال الدين خان، الذين شكلوا معاً ما يُعرف بمدرسة البنغال الجديدة. لم يكونوا مجموعة رسم فقط، بل أشبه بفرقة إنقاذ فنية لهوية الهند، كانوا يرسمون وكأنهم يحكون حكاية جدّتهم، لكن بالألوان.
لوحة (بهارات ماتا) لم تُرسم وتُعلّق ثم نُسيت. لا، بل طُبعت لاحقاً في مجلات، وعلقت في المدارس، وسُلّلت إلى قلوب الهنود من دون استئذان، حتى أن بعض النسخ كانت تُهرب كما تُهرب قصائد الثورة، خوفاً من عيون البريطانيين. والأموال؟ لم يكن أحد يتوقع أن يصبح ثرياً من رسم أمٍّ واقفة. القيمة كانت في التأثير، لا في السعر.
وبينما كانت هذه الأيقونة تُكرّم وتُقدّس، كانت في الجهة الأخرى من العالم تُنهب كنوز الهند الفنية بلا رحمة. تماثيل حجرية تُقتلع من معابدها، مجوهرات لا تقدّر بثمن تُهرّب كأنها هدايا، ولوحات قديمة تجد نفسها فجأة على جدران قصور غربية. تخيّلوا تمثال ناتراج البرونزي، راقص الزمن، يُشحن في صندوق خشبي كأنه آلة قهوة! لكن الهند لم تسكت، واسترجعت الكثير من هذه الكنوز بعد معارك قانونية طويلة كأنها أفلام بوليوودية مشوّقة.
وهكذا، تظل (بهارات ماتا) لوحة ناجية وسط عالم من النهب، صامدة وسط زوابع الزمن، لم تُسرق، لم تُباع، لم تُطبع على فناجين قهوة. بقيت هناك، شامخة، تهمس في أذن كل هندي: الوطن ليس مجرد أرض… إنه امرأة بأربع أياد، وثوب من نار، وقلبٍ لا يموت.