في إحدى زوايا متحف اللوفر الباريسي، تقبع لوحةٌ صغيرةٌ خلف زجاجٍ يحميها من أعين اللصوص ومن تهافت العدسات إنها (الموناليزا)، السيدة التي رافقتْ عبقرية ليوناردو دا فينشي في ترحاله، وحملت معها عبر القرون أسئلةً لا تُحصى، وفي هذا المقام يُحكى أن زائرا إيطاليا وقف أمامها ذات يوم مع حبيبته، وقال لها بنبرةٍ رومانسية: “انظري..!.. حتى الزمن نفسه يرتجف أمام ابتسامتها.. كابتسامتكِ!” فأجابتْ ضاحكة: “لكن ابتسامتي لن تُسرق كما سُرقت هي! “.
كان يا مكان بدأت الحكاية في فلورنسا عام 1503، حين طلب تاجر الحرير (فرانشيسكو ديل جيوكوندو) من الرسام (دا فينشي) رسم زوجته (ليزا غيرارديني) هدية لها لكن الفنان، الذي أبدع في استخدام تقنية (السفوماتو) لخلق ضبابية ساحرة حول ملامحها، وقع في حب لوحته رفض تسليمها، وحملها معه في ترحاله حتى رحيله في فرنسا عام 1519م كما كتب الشاعر الإيطالي جوزيبي بونافيري عام 1921
حملتَها في ترحالكْ.. لوحةً صارتْ قلبَكْ
وغَدَتْ سرُّ ابتسامتها.. لغزَ عصرٍ ومِفتاحَكْ
لم تكن الابتسامة وحدها سر جاذبيتها، بل تلك الخلفية الطبيعية التي رسمها (دا فينشي) بتفاصيل مدهشة، وكأنها عالمٌ موازٍ يختفي خلف ضباب المشاعر، يقول أحد حراس المتحف مبتسما: “مرّة حاول سائحٌ تصويرها فتعثرت عدسته، فصرخ: هل تبتسم لأن الكاميرا فشلت في التقاطك؟!”.
اللوحة لم تسلم من الأقدار الدرامية ففي عام 1911، قرر الإيطالي “فينشنزو بيروجيا” سرقتها بحجة أنها “ابنة فلورنسا”، واختبأ بها لمدة عامين، خلال تلك الفترة، هزّ اختفاؤها العالم، حتى أن الشاعر الفرنسي (غيوم أبولينير) كتب عام 1912:
يا سيدة الضباب، عودي..
فاللوفر بلا عينيكِ.. صحراء بلا مطر!
وعندما عادت، زادت شهرتها كأنما تقول: “الغموض لا يُسرَق، بل يُكتَسَب!”، وتحولت إلى رمزٍ وطني فرنسي، بينما صار لصوصها أبطالًا شعبيين في إيطاليا .
وراء كل هذا الغموض، تُخفي (الموناليزا) حكاياتٍ رومانسية، فالبعض يعتقد أن (دا فينشي) رسم نفسه في صورة أنثى، أو أنها تجسيدٌ لحبيبته الخيالية، وكما علق الفيلسوف (أوسكار وايلد): “الفنُ مرآةُ العاشق، لا العالم”، حتى نابليون بونابرت لم يسلم من سحرها، فعلقها في غرفة نومه، بينما نسخها سلفادور دالي بشاربين سرياليين، وكتب عنها بوب ديلان أغنيةً تقول: (موناليزا.. أنتِ لغزٌ حتى في الأغاني )..!.
اليوم وبعد أكثر من خمسة قرون، ما تزال الابتسامة الأكثر شهرة في التاريخ تثير الحيرة ربما تكمن الإجابة في بيت الشاعر نزار قباني:
المرأةُ لوحة.. والرجلُ إطارها
والباقي تفاصيل.. تذهبُ للريح!
لكن الموناليزا تذكرنا دائما أن بعض الأسئلة لا تحتاج إجابات.. فالجمال الحقيقي يُحسّ بالقلب، لا يُفسر بالكلمات وهكذا، تبقى تلك القطعة القماشية الصغيرة شاهدة على أن الفن، حين يمتزج بالغموض، يصير خالدا.