في مقالاتي السابقة، تناولت الحديث عن مدارس فنية متعددة، من الكلاسيكية إلى التكعيبية، مرورًا بأنماط أخرى مختلفة. واليوم، تأخذنا هذه الرحلة إلى عالم الفن المفاهيمي، أحد أكثر الحركات الفنية إثارةً للجدل والتأمل. هذا النوع من الفن لا يعتمد على الجماليات التقليدية و حرفية الضوء و الظل بقدر ما يركز على الفكرة والمفهوم الكامن وراء العمل، متجاوزًا الحدود المألوفة للأدوات والأساليب الفنية المتعارف عليها.
نشأ الفن المفاهيمي في ستينيات القرن العشرين، وأعتقد أن الفكرة نفسها أهم من الشكل النهائي إذ لم يعد الفنان مقيدًا باستخدام الألوان والفرشاة، بل أصبح يعبر عن رؤيته بأي وسيلة يراها مناسبة، سواء عبر الكلمات، الصور الفوتوغرافية، أو حتى الأداء الحيّ. كان مارسيل دوشامب من أوائل رواده عندما قدم عمله “النافورة” عام 1917، وهو مجرد مبولة خزفية وقع عليها باسم مستعار، ليطرح تساؤلات جريئة حول ماهية الفن ومن يحدد قيمته. وبعده، جاء فنانون مثل جوزيف كوسوث، الذي قدّم عمله “كرسي واحد وثلاثة” عام 1965، حيث عرض كرسيًا حقيقيًا، إلى جانبه صورة فوتوغرافية له وتعريفه القاموسي، متسائلًا عن العلاقة بين الشيء وتمثيله ومعناه.
شهد هذا الفن أعمالًا بارزة مثل “أنا أيضًا فنان” لأون كاوارا، حيث كان يرسل بطاقات بريدية لأصدقائه تحمل تاريخ كل يوم، ليجعل الزمن نفسه محور العمل الفني. كما تبنت مؤسسات كبرى مثل متحف تيت مودرن في لندن ومتحف موما في نيويورك هذا الاتجاه، ومنحته مساحة واسعة. ومن الأعمال التي أثارت الجدل، قدم الفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان عملًا بعنوان “الموزة المثبتة على الجدار” عام 2019 في معرض ميامي، حيث قام ببساطة بلصق موزة على الحائط وبيعت بمبلغ 120,000 دولار، قبل أن يأكلها فنان آخر أمام الجمهور، معتبرًا ذلك جزءًا من التفاعل الفني.
وفي قصة أخرى، عرض الفنان إيف كلاين عام 1958 معرضًا تحت عنوان “الفراغ”، حيث دعا الجمهور إلى قاعة فارغة تمامًا، مؤكدًا أن الفن الحقيقي يكمن في التجربة التي يعيشها الزائر. وعلى الرغم من أن القاعة لم تحتوي شيئًا، دفع الناس المال لحضور “اللاشيء”، في مشهد يعكس مدى تجاوز الفن المفاهيمي للحدود التقليدية للفن.
الفن المفاهيمي لا يمثل مجرد تيار فني، بل هو تحدٍّ دائم للعقل والمفاهيم الراسخة حول الفن. إنه مساحة للتساؤل والابتكار، والخروج عن المألوف، مما يجعله صعب التقبّل لدى البعض ممن اعتادوا على الوضوح والنمطية في العمل الفني. أي تغيير جذري يثير بطبيعة الحال مقاومة، إذ يواجه رفضًا ممن نشأوا على مفاهيم تقليدية حول ماهية الفن. وعلى عكس الفنون الكلاسيكية التي تدعو للتأمل في الجمال، يأتي الفن المفاهيمي ليكسر القواعد ويطرح تساؤلات حول الحرية والإبداع، وهي الفكرة التي تجعل استيعابه أمرًا غير يسير لدى الكثيرين.