الرئيسية / مقالات / تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر كأداة فاعلة في إدارة المعرفة الإستراتيجية

تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر كأداة فاعلة في إدارة المعرفة الإستراتيجية

 

 

الباحثة الأستاذة /الشيخة مها بنت عبدالعزيز آل خليفة 

هذه الدراسة كتبتها الأستاذة الباحثة الشيخة مها بنت عبدالعزيز آل خليفة بمونترو يوم 23 يوليو 2006م، وأبرزت فيها ما تتمتع به مملكة البحرين من ميزات تجعلها دولة جاذبة الاستثمار، وما يتزخر به المملكة من محفزات ومن خصائص قل نظيرها في المنطقة كونها مركز مالي كبير، وذات شهرة مالية وتجارية منذ آلاف السنين.

ننشر هذه الدراسة اليوم في (تقرير البحرين) لأهميتها بالنسبة للوقت الراهن، وقد كان للباحثة وهي تنظر للبحرين وجهودا في جذب الاستثمارات بُعد نظر ورؤية ثاقبة، فابدعت الباحثة الأستاذة الشيخة مها آل خليفة بحيث أصبحت هذه الدراسة قابلة لتنفيذ محتواها اليوم بما يخدم أهداف التنمية المستدامة.

المحرر الصحفي

 

 مقدمة:

عندما طُلب مني أن أتولى مسئولية مكتب الحماية الفكرية بوزارة الإعلام، توجست بادئ الأمر خيفةً من الولوج في هذا العالم المجهول لديّ حتى ذلك الوقت…غير أن قناعاتي بالإسهام في خدمة بلدي في أي موقعٍ يراه المسئولون، حفزني على قبول ذلك التحدي ومحاولة بذل كل ما توفر لديّ من علم ومعرفة لإنجاز تلك المهمة بالقدر الممكن من الإتقان.

لم تكن تلك قناعة شخص مغامر، بل كانت مسئولية محسوبة بمدى ولائي لوطني وقيادته الرشيدة وللرؤية الإصلاحية الثاقبة لجلالة الملك المفدى وسعيه نحو خلق وطن يتسع للجميع ويعيش فيه الجميع في رغدٍ من العيش والطمأنينة…

لم أكن احسب أن عالماً من المعرفة بهذا الحجم والأهمية قد انفتح أمامي فجأة…ذلك المفهوم الذي كنت أعتقد انه لا يتجاوز نسخ الكتب أو سرقة المصنفات الأدبية والفنية أو تقليد الماركات التجارية الشهيرة، أتضح أنه يحتوي على قدر كبير من آليات التنمية والتحديث والتطوير البشري لم يتوافر مثيلها للإنسانية من قبل…لذا قررت التعامل مع مفهوم الملكية الفكرية من منظور استراتيجي بوصفها الدافع القوي للنمو الاقتصادي والوسيلة المثلى للدول النامية للحاق بركب الحضارة والتطور عن طريق نقل التقنية والتحديث.

فهناك ارتباط وثيق بين نقل التقنية وبين حماية حقوق الملكية الفكرية بشقيها الأدبي والصناعي…بل توجد دلائل قوية على تلازم تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر مع حماية الملكية الفكرية، ذلك لأن أصحاب تلك الحقوق لن يألوا جهداً في الحفاظ عليها خصوصاً وقد بذلوا فيها جهداً جهيداً ووقتاً ومال في البحث والتطوير إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه من نتائج.

يقول كيث ماسكوس في كتابه Intellectual Property Rights in the Global Economy “إنّ تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر من الدول الصناعية إلى 69 دولة نامية على مدى عقدين من الزمان، أسهم بصورة ايجابية في النمو الاقتصادي في البلدان المستقبلة لتلك الاستثمارات، أكثر من ما ساهم به الاستثمار الوطني أو المحلي”. وأراد بذلك أن يقيم الدليل على أن الاستثمار الأجنبي المباشر يتفاعل بصورة ايجابية مع الحماية الفاعلة لحقوق الملكية الفكرية.

لقد أسهم التقدم التقني والثورة المعلوماتية وتطور وسائل الاتصال في سهولة انسياب الاستثمار في رقعة جغرافية اكبر مما عرفته البشرية في تاريخها السابق، وقد ساهمت العولمة و تدويل الاقتصاد بصورة كبيرة في تعزيز فرص الاستثمار في الدول النامية بسبب عولمة رأس المال وانفتاحه على الاستثمار في أي مكان يمكن أن يحقق له ربحية عالية طالما وجد الضمانات الكافية لحمايته من المصادرة والفساد وانعدام الشفافية. كل ذلك يتمّ تحت الأشراف المباشر لمنظمات التمويل الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي إضافة إلى الشركات والبنوك متعددة الجنسيات. هذا الأمر قاد بدوره إلى أن تتبع كثير من الدول النامية برامج إصلاح اقتصادي شامل بتحرير الاقتصاد وأتباع الخصخصة وتقليل الرقابة المفروضة على تدفق الأموال، مع اتخاذ سياسة اقتصادية متوازنة على مستوى الاقتصاد الكلي لكي تتمكن من الحد من التشوهات الاقتصادية.

البحرين دولة صغيرة في حجمها، لكنها تتمتع بموارد بشرية سبقت بها غيرها من دول المنطقة، تمثلت في التعليم والتنوير والتدريب، وبذا تمتعت بميزة تفضيلية comparative advantage ستسهل عليها حيازة التقنية الحديثة والتعامل معها بشكل متطور.

غير أن معظم اقتصاد البحرين يقوم حاليا على قطاع النفط وصناعة الألمنيوم بالإضافة إلى صناعات صغيرة أخرى من بينها صناعة المنسوجات. بقية الاستثمار ينصب في قطاع الخدمات من مصرفية وسياحية والاستثمار في المجال العقاري.

الودائع المالية الكبيرة لدى البنوك اتجهت في كلياتها نحو الاستثمار في قطاعات محددة، على رأسها العقار، فأسهمت في انتعاشه نتيجة لصغر الرقعة الجغرافية للبلد مما أدى إلى صعود كبير في عائد الاستثمار في هذا القطاع. وبما أن هذا الجانب من الاستثمار قد لا يكون هو المجال الاستثماري الأمثل على المدى الطويل، أو أن يوفر حلاً لمشاكل اقتصادية أخرى تعاني منها البحرين ليس أقلها تدني مستوى معيشة الفرد مقارنة بدول الجوار النفطية وقلة فرص العمل لدى فئة معتبرة من المواطنين مما قد يؤدي إلى مشاكل اجتماعية تؤثر سلباً على الأداء الاقتصادي للدولة، فأن الاستثمار الأجنبي المباشر يشكل بالنسبة للبحرين عاملاً مكملاً لتمويل المشاريع الاستثمارية التي لا يتوفر لها التمويل الداخلي أو لا يستطيع رأس المال المحلي الانفراد بتمويلها بسبب ضعفه أو خوفاً من المخاطر أو لنقص في التقنية المستغلة في ذلك الاستثمار. ولن أضيف جديداً عندما أقول أن الاستثمار الأجنبي المباشر يقود إلى تحسين الإنتاجية من خلال اعتماده على تجارب سابقة له في هذا المجال، ومن خلال استغلاله لمخزون المعرفة التقنية والإدارية التي بها ستتم عملية نقل التقنية إلى العامل البحريني وتدريبه في وسائل الإدارة الحديثة. وهذا يقتضي بالضرورة توفر الحد الأدنى من القوى البشرية المدربة أو تلك التي لديها استعداد ذهني لاستيعاب أساليب الإنتاج والإدارة الحديثة، حيث ثبت بالدليل العملي أن هناك تكامل بين الاستثمار الأجنبي المباشر وبين الموارد البشرية للبلد المستقبل لذلك الاستثمار.

ووفقاً لمعطيات محلية وأخرى مستلهَمَة من تجارب دول أخرى كاليابان بعد الحرب العالمية الثانية، والنمور الآسيوية لاحقاً، ليس هناك من سبيل للبحرين سوى الاستثمار في الاقتصاد المعرفي؛ وذلك أمر لن يتأتى إلا بالعمل الجاد نحو جذب الاستثمار الأجنبي المباشر في مجال الصناعات الدقيقة وفي مجال البرمجيات وصناعة الأدوية والمعدات الدقيقة التي يمكن نقلها من منشأها إلى البحرين طالما كان المناخ الاستثماري جاذباً ومهيئاً لاستقبال مثل هذه الصناعات ذات العائد المادي الكبير والمعتمدة على التقنية الحديثة والتي تعتبر في نفس الوقت صديقة للبيئة.

هذا يقودنا بالتالي إلى ما أعتدنا على ترديده من أهمية خلق البنية القانونية المتينة لحماية حقوق الملكية الفكرية والتي يعتمد عليها نقل التقنية في المقام الأول، لأنه ليس هناك من هو على استعداد للمغامرة برأسماله المعرفي دون أن تتوفر له الضمانات الكافية لحماية حقوقه الفكرية.

بطء إجراءات التقاضي في المحاكم، وسوء تمثيل صاحب الحق الأجنبي لعدم وجود محامين مؤهلين في هذا المجال، وانعدام الكفاءة الفنية لدى المحاكم أو عدم القدرة على تنفيذ الأحكام القضائية المحكوم بها في قضايا الملكية الفكرية، تعتبر كلها من الأسباب التي تجعل أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية يفكرون أكثر من مرة قبل الولوج إلى سوق بعينها.

هنا لا بد من التنويه بأن اتفاقية التجارة الحرة بين البحرين والولايات المتحدة الأمريكية قد فتحت الباب على مصراعيه لتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر بخلقها مجال اقتصادي واحد بين البلدين وبإرسائها لقواعد اقتصادية وقانونية واضحة تطمئن المستثمرين على وجود حماية فعالة لأصولهم المعنوية المتمثلة في حقوق الملكية الفكرية.

 

ولا بد من التأكيد أيضا بأنه يوجد شبه إجماع بين الاقتصاديين بأن العنصر الأساسي في تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر يرتبط بالمناخ الاقتصادي السائد في البلد المعين والذي يتمثل في تكلفة الإنتاج ومستوى رأس المال البشري والبنية التحتية للتنمية وعوامل الاقتصاد الكلي الأخرى macroeconomic conditions.

من بين هذا العوامل تأتي الحماية الفعالة للملكية الفكرية كعنصر مؤثر في اتخاذ قرار الاستثمار في بلد بعينه. النمو الاقتصادي السريع وانخفاض تكلفة الإنتاج والاستقرار السياسي ومستوى المهارات الفردية لدى الذين ينبغي عليهم التعامل مع التقنية، تجعل من السهولة بمكان خلق المناخ الجاذب للاستثمار الأجنبي المباشر.

أهمية الملكية الفكرية كحافز للاستثمار في دولة كالبحرين تكمن في حقيقة أن المنتجات المعتمدة على التقنية الرقمية أصبحت تأخذ مكان الموارد الطبيعية في خلق الثروة الوطنية، وفي هذا الخصوص قد تكون البحرين مثالاً نموذجياً لتصير سنغافورة أو تايوان أو تايلاند الشرق الأوسط.

لذا يلزمنا أن نتحدث عن الاستثمار في مجال تقنية المعلومات والتي تعتبر من الاستثمارات التي تناسب بنية الاقتصاد البحريني وفقاً للمعطيات التي ذكرنا ومن بينها محدودية المساحة الجغرافية وقلة الكثافة السكانية مع وجود موارد بشرية قادرة على التعامل مع هذا النوع من الاستثمار. وبإمكان البحرين أن تكون الآلة الرافعة لمنطقة الخليج في مجال الاقتصاد المعرفي إذا ما خلقت من نفسها، مستعينة باتفاقية التجارة الحرة، منطقة للبحث العلمي المرتبط بالإنتاج بحيث تفيد منها معظم الشركات متعددة الجنسيات في نقل بعض من معاملها إلى هنا بحثاً عن القرب من أماكن الإنتاج التي أصبحت تنتقل إلى الدول النامية بسبب ارتفاع التكلفة في الدول المتقدمة، وبسبب احتدام المنافسة على مستوى السوق العالمي. وهذا يعني بالضرورة الاهتمام بمستوى التعليم من حيث الكيف وليس التعليم الذي يدفع إلى سوق العمل بمواطنين لا يسهم ما نالوه من معلومات في إضافة أي جديد لما نتحدث عنه من اقتصاد معرفي. وهذه المهمة تقع في المقام الأول على كاهل الذين يخططون للتنمية في هذا البلد، إذ ينبغي عليهم رسم سياسات واضحة المعالم يتحدد مردودها بصورة استراتيجية على المستوى القريب وعلى المدى البعيد. ويمكننا بالطبع تحديد بعض مجالات الاستثمار المرتبطة بالملكية الفكرية التي يمكن أن تستوعبها مملكة البحرين:

 

1- مجال الماركات والعلامات التجارية المميزة:

لقد نقلت كثير من الشركات مالكة العلامات التجارية المميزة مصانعها إلى أجزاء مختلفة من العالم بعثاً عن خفض تكلفة الإنتاج وكلفة الترحيل بالاقتراب من مواقع البيع والتوزيع.

منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه الخصوص لم يكن لها شيء يذكر في تلقي مثل هذه الاستثمارات، عليه يصبح من أولويات راس المال البحريني الاجتهاد في هذا الاتجاه ليكون سباقاً في هذا المجال، وهذا بالطبع يستلزم سياسة تسويقية فعالة للمملكة وإبراز إمكانياتها في تقبل الاستثمارات الكبرى. وغني عن القول أن التسويق لا يمكن أن تقوم به جهة منفردة، فهو جهد مشترك ومتناغم ما بين الحكومة والقطاع الخاص، وهذا عين ما تقوم به الدول المتقدمة صناعيا في الترويج لمنتجات مصانعها ومحاولة فتح الأسواق أمامها سواء عن طريق الاتفاقيات الثنائية أو الدبلوماسية متعددة الأطراف multilateral diplomacy.

2- الإنتاج المعتمد على التقنية Technology–based production:

وهذا يشمل مجال الإلكترونيات والصناعات الدقيقة والتقنية الحيوية biotechnology المعتمدة على براءات الاختراع المحمية دولياً، ويستطيع القطاع الخاص أن يلج هذا المجال معتمداً على الحماية الفعالة لبراءات الاختراع بكل ما تعني تلك الحماية من مدلول قانوني وإداري. وفي هذا الخصوص يمكن إقناع بعض الشركات بنقل الكثير من مراكز البحث والتطوير إلى هذا المنطقة مستفيدة من بعض العقول الموجودة بها والتي لم تُستَغل طاقتها القصوى في مجالات البحث والتطوير، كما يمكن الاستعانة بالجامعات وتفعيل أدوات البحث بها بتنسيق مع بعض الشركات والمصانع الكبرى التي يمكنها أن تخلق البنية التحتية للبحوث العلمية التطبيقية في مقابل الاستفادة من ناتج تلك البحوث، في هذا الجزء من العمل لا بد من تكامل الأكاديمي مع الحكومي مع القطاع الخاص.

3- مجال البرمجيات والتقنية الرقمية:

ونعني بذلك الاستثمار في المجال المتعلق بحق المؤلف والحقوق المجاورة.

وحق المؤلف كما نعلم يشمل ضمن ما يشمل برامج الكمبيوتر بكافة أنواعها، بينما تشمل الحقوق المجاورة مجال الإنتاج في البث الإذاعي وحقوق الأداء وحق التسجيل الصوتي.

صناعة البرمجيات والإنتاج الفني يمكن أن تكون مجالاً ممتازاً لنقل بعض أنشطة الشركات الكبرى إلى البحرين بغرض التسويق في كل المنطقة. إذ ما زالت منطقة الخليج تفتقر إلى هذا النوع الصناعات. وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر منتج في العالم للبرمجيات والتقنية الرقمية، فأن اتفاقية التجارة الحرة قد تصبح المفتاح الحقيقي لهذا الكنز من الاستثمار.

أخلص من كل ذلك إلى أن مملكة البحرين تتمتع بكل مواصفات الدولة الجاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر خصوصا في مجال التقنية الحديثة.

فهناك الاقتصاد الحر المنفتح على العالم والمبني على المبادرة الفردية، وتوجد بنية تحتية مواتية، واستقرار في الحكم قائم على برنامج اصلاح سياسي هو الأول من نوعه والوحيد في المنطقة حتى لحظتنا هذه، وشراكة تجارية مع اكبر قوة اقتصادية في العالم؛ فإذا ما اخذنا في الإعتبار أن تدويل الأقتصاد يؤدي في نهاية المطاف إلى النمو الاقتصادي في البلد المستفيد من الاستثمار الأجنبي المباشر، فأن استفادة البحرين من هذا التدويل، ستقود بدورها إلى رفع متوسط دخل الفرد per capita income ومن ثم الإسهام في خفض الفقر وخلق مجتمع الرفاه الذي نتطلع إليه. هناك إذن فرصة ممتازة متاحة لمملكة البحرين لكي تستفيد إلى أقصى حد من عولمة الاقتصاد، وهذا ما اردت التنويه له في المقالات المنشورة على صفحات هذا الكتاب، وبالله التوفيق.

 

مها بنت عبد العزيز آل خليفة

 

مونترو 23 يوليو 2006

 

 

عن admin

صحفي وكاتب ومستشار اعلامي